المحافظة على المكتسبات أهم من الوحدة النقدية الخليجية
قررت دولة الكويت الشقيقة في خطوة مفاجئة دون سابق تنسيق كما يبدو فك ربط عملتها بالدولار الأمريكي الضعيف والرجوع إلى سابق عهدها من خلال ربط دينارها بسلة عملات بما فيها الدولار حسب أوزان مختلفة تتناسب مع عمليات التصدير والاستيراد في الدولة. وهي الآلية التي كانت عليها الكويت لسنوات طويلة قبل عام 2003م - الأمر الذي قوى سعر الدينار دائما - تاريخ تحولها من الربط بسلة عملات إلى الربط مع الدولار فقط على أساس تفاهمات توحيد النهج الخليجي في طريقها للوحدة النقدية الخليجية، وبالتالي أصبحت كل العملات الخليجية مربوطة بالدولار الأمريكي الضعيف شرائيا والقوي سياسيا منذ ذلك التاريخ. وعودة الكويت بالذات دون غيرها من دول الخليج تبين أن هناك أشياء مهمة حصلت وقراءة يجب معرفتها بدقة وعلى رأسها أن أهم مسببات قرار الكويت كما أعلن هو معالجة التضخم الذي أكل في المتوسط نحو 12 في المائة كمؤشر حقيقي (التضخم المحلي والمستورد). ولا أتحدث هنا عن المؤشرات الرسمية، ولكني أتحدث عن مؤشر خاص بسوبر ماركت العائلة الذي أتبضع منه، ففاتورتي الأسبوعية ارتفعت في المتوسط بأكثر من 12 في المائة، وبالتالي المؤشرات الرسمية لا تعني للمواطن الخليجي شيئاً. إذن هل نحن ملتزمون بالوحدة النقدية أم تعثر المشروع الطموح وفشل في إيجاد وحدة نقدية في نهاية عام 2010م؟
والمسألة هنا ليست صواب أو خطا قرار الكويت، أو صواب وخطأ الدول التي تتمسك بارتباطها بالدولار الأمريكي رغم ضعفه المستمر وعلى غرار فيلم المريض الإنجليزي، ولا أعتقد أنه يحق لنا مناقشة مثل هذه القضية وتخطئة جهة وتصويب أخرى، فلا مستوى الاطلاع على الحقائق وتفاصيلها متوافر لدينا نحن المراقبين، ولا حيثيات القرارات الاقتصادية السياسية متوافرة حتى بعد اتخاذ القرارات السابقة التي يمكن من خلالها أن نبني عليها ما سوف يحدث لاحقاً. إن أولى النقاط الجوهرية في الموضوع ربط العملات الخليجية بالدولار الأمريكي، هي أن نهج الارتباط نفسه بعملة معينة يعنى بالمطلق ارتباط سياسة نقدية للعملة المربوطة (دول الخليج) بالعملة المربوط بها (أمريكا). وهو أمر مفروغ منه، فتصبح المسألة زواج فيه قوامة لأحد على الآخر. وهو الأمر الذي يعني اتباع نفس أسعار الفائدة المتبعة في الدولة المربوطين بعملتها (أمريكا)، ويكفي الإشارة إلى ما حدث في عام 2003/2004م عندما خفض الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها 1 في المائة بسبب مؤشرات الكساد التي كان يعاني منها الاقتصاد الأمريكي، فيما دول الخليج كانت تعيش حالة نمو وصلت في فترة قصيرة إلى مستوى الفقاعة في أسواق المال، التي بسبب التشريعات كانت القناة الوحيدة لامتصاص التدفقات النقدية الضخمة بينما السياسات النقدية الخليجية استمرت في تخفيض أسعار الفائدة متبعة العم سام بسبب منطق الربط! والنتيجة تعرفونها جيدا!!!
النقطة الثانية طبيعة اقتصادات الخليج التي تقوم على تصدير منتج واحد واستيراد كل المنتجات العالمية تقريباً، هي طبيعة ذات خلل هيكلي واضح لا يمكن معها انتهاج سياسة نقدية مستقلة وتعويمها لخدمة الأغراض الاقتصادية المحلية لدول المجلس وعلى المستوى الإقليمي، وهو ما يفسر الكثير من التذبذب في اقتصادات الخليج وكبر التحديات أمام صانع القرار السياسي والاقتصادي التي لا تنفع معها النيات الصالحة. فأصبح المحرك الأول والممكن اقتصاديا هو هم إدارة النقد "الكاش" وليس إدارة السياسة النقدية بمفهومها الاقتصادي الواسع (سياسة فن الممكن). وهناك فرق بين إدارة النقد "الكاش" وإدارة السياسة النقدية. فالأرضية التجارية لم توفر الهيكل الاقتصادي المناسب والسليم لإدارة سياسة نقدية متطورة ذات استقلالية وذات أدوات مناسبة وكافية في أيدي صانعي السياسة النقدية.
النقطة الثالثة الديناميكية الذي بدأنا نشاهدها في طبيعة الاقتصادات الخليجية وبالذات منذ سنوات قليلة بسبب المتغيرات المحلية والإقليمية والانفتاح الذي شهدته تلك الاقتصادات وفوق كل هذا أسعار الذهب الأسود المرتفعة، التي تبدو أنها أتت فجأة دون وجود استعداد كاف وبالذات في القطاع المالي الذي يتسم بالحساسية الشديدة والتأثير المباشر في الاقتصادات وبالذات عندما يكون في جانب أسواق المال، وهو الأمر الذي يجب أن يغير كثيرا في أساليب الإدارة الاقتصادية حتى يمكن لها التعامل مع المتغيرات بنفس الروح والسرعة والحرفية. الجدير بالذكر أن هناك قلقا عالميا ومطالبات بدأت ترتفع أصواتها لوضع معايير أكثر صرامة فيما يخص الصناعة المالية العالمية العابرة للقارات، التي يقرأها كثيرون من المفكرين عالميا على أنها تشكل خطرا قد يحرق اقتصادات العالم المتقدم، فما بالك بغيرها من الاقتصادات.
النقطة الرابعة حول ارتباط أو عدم الارتباط بعملة معينة هل هذا الارتباط هو قرار اقتصادي بحت أو سياسي بحت؟ أم أنه مزيج من الاثنين؟ والجواب في المنطقة الخليجية لا يمكن القول إ القرار الاقتصادي مستقل عن القرار السياسي، ولا هو كذلك في أفضل الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، ولكن هناك حدود فاصلة وهناك آليات للتدخل والتداخل بين الاثنين في تلك الاقتصادات المتقدمة، وهي غير موجودة خليجياً. وهي حقيقة تفرضها طبيعة الأنظمة ومستوى التنمية الموجودة، ولكن هل هناك خطة عمل على المديين المتوسط والبعيد لبرمجة العلاقة بين الشأن الاقتصادي السياسي والعكس وإعطاء الشأن الاقتصادي المرونة الكافية والآلية المناسبة للعمل بشكل مهني؟
النقطة الخامسة والأخيرة: مدى تكامل السياسات النقدية الخليجية والتنسيق، كون جميع عملات دول الخليج مربوطة بالدولار الأمريكي فإنه على تلك العملات أن تمشي بنفس خطوات الدولار بما يتوافق والسياسة النقدية الأمريكية صاحبة الدولار. فهي عملة أمريكية في النهاية، وهي التي تقرر سياساتها النقدية بما يتوافق مع مصلحة أمريكا. وهنا مكمن الخطورة، أمريكا لا تهتم بالدولار كما نعتقد كما تهتم الدول النامية بعملاتها وتحافظ عليها كوليد صغير، أمريكا تهتم باقتصادها ومدى خدمته للاقتصاد الأمريكي ومنافسته الخارجية مع القوى التي بدأت تبرز تدريجيا على الساحة الدولية، وهي تريد أن تحافظ على كونها الدولة العظمي في كل المجالات. ويتضح أن الدولار الضعيف يخدم هذا الهدف بشكل جيد. وبالتالي لا أتصور أن صانعي السياسة النقدية خليجياً ليسوا على اطلاع ومعرفة بالتفاصيل غير المعلنة للسياسة النقدية الأمريكية للتعايش مع دولار ضعيف، وبالتالي سوف تستمر السياسة النقدية الأمريكية في إضعافه أكثر كسياسة غير معلنة لها أهداف استراتيجية بعيدة المدى سياسية واقتصادية؟
وعليه أنا مؤمن أن القرار توحيد العملة الخليجية سوف يكون في ميزان المحافظة على المكتسبات الوطنية أولا لكل دولة ولجميع الدول الخليجية مجتمعة وأن موضوع بمثل هذا التعقيد والتشابك، لا ينجح فقط بالنيات الحسنة وإنما نحن في الخليج بحاجة إلى جهود كبيرة على مختلف المستويات لتحقيقه من خلال فكر مختلف وآليات عمل محددة. وختاما فإن أهم أسباب نجاح تجربة اليور كان تحييد السياسة والتركيز على الاقتصاد في هذا الموضوع وخضوعه لمؤشرات توافق فنية بحته كانت دوما هي المعيار لكل الدول المشاركة.