رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


هويتنا رأسمال لاستمرار وجودنا

[email protected]

كثيراً ما يتم التعبير عن الهوية بعبارات قصيرة كأن يقول الفرد: أنا مسلم, أو أنا عربي, أو أنا ألماني, ومع أن التعبير بهذه الصورة موجز ومختزل إلا أنه يحمل في طياته الكثير من المعاني والدلالات التي تحتاج إلى كتب ومجلدات تكشف عما يقبع خلف هذه الكلمات المختزلة.
في القمة العربية التاسعة عشرة التي عقدت في الرياض وردت في البيان الختامي للقمة مجموعة قضايا قلما تهتم بها القمم السابقة، وأعتقد أن إبداء اهتمام لهذه الأمور يمثل تحولاً في طريقة التفكير، ذلك أن القمم السابقة كانت تعطي اهتماماً أكبر في الشق السياسي فقط طوال العقود التي عقدت خلالها القمم العربية، بينما مجالات التربية والتنمية لا تحظى بما تستحقه من اهتمام. وقد ركز البيان الختامي على أربعة أمور هي: الهوية، تطوير التعليم، ثقافة التسامح والانفتاح، وتطوير البحث العلمي والإنتاج المشترك ككتب الأطفال.
فيما يتعلق بالهوية تطرق البيان إلى العمل الجاد لتحسين الهوية العربية، وعند التأمل في عبارة تحسين الهوية تستوقفنا كلمة تحسين، فمن أجل أن حسن الشيء لا بد من معرفة الشيء المراد تحسينه في مكوناته، عناصره، وآليات تشكيله أو تحسينه. والهوية لكل أمة ليست مجرد رمز يشار به إلى تميز هذه الأمة عن غيرها، بل لا بد من تحديد المكونات، فاللغة، الدين، القيم، العادات، التقاليد، اللباس، وطريقة العيش بشكل عام، كل هذه وغيرها من عناصر الهوية، فهوية الياباني يدخل فيها لغته، ومعتقده، وطريقة عيشه، وهذا الأمر ينطبق على البريطاني، والصيني، والألماني، أو أي إنسان ينتمي لأي أمة من الأمم. وإذا كان القادة العرب قد أولوا الهوية اهتمامهم، فلا بد من معرفة جوانب القصور التي وجدوها في الهوية طالما أنهم قرروا تحسينها، وما العناصر التي تستهدفها عملية التحسين وما آليات التحسين المراد استخدامها؟ ما يجمع العرب ويميزهم عن غيرهم من الأمم هو لغتهم، والدين الإسلامي لدى غالبيتهم، وكثير من القيم، العادات، التقاليد، واللباس عند أبناء الجزيرة والخليج على وجه الخصوص.
ترى ما أوجه التحسين، وما العناصر المستهدفة؟ الأمريكان من أصل إفريقي، عملوا على خلق هوية تميزهم عن غيرهم في بعض الجوانب، كما في طريقة نطق اللغة الإنجليزية، أو الموسيقى، أو بعض مظاهر السلوك كطريقة المشي أو الحركة وما إلى ذلك، وهذا السعي لخلق هوية مميزة هو نتيجة التهميش الذي عانوه في المجتمع الأمريكي ولا يعني أن سعي هذا العرق للتميز فيه تحسين للهوية, بل هو إثبات للذات بين الغالبية العظمى من أبناء المجتمع. لقد اجتهدت في فهم المقصود من معنى تحسين الهوية وتوصلت، إلى أن من الممكن أن يكون المراد تحسين صورة الإنسان العربي لدى الآخر والقيام بحملة تعريف بالإنسان العربي وقيمه الأصيلة لإعادة رسم صورة الإنسان العربي وإظهارها بالصورة المناسبة, أما المعنى الآخر الذي توصلت إليه فقد يعني إعادة النظر بشأن الهوية ومكوناتها, بحيث تتم إعادة تشكيل الهوية وبصورة مختلفة عما هي عليه الآن, وهذا يقتضي جهوداً مضنية تضطلع بها المؤسسات التربوية والإعلامية وكافة الهيئات والجهات ذات العلاقة بالتنشئة ما يعني حذف عناصر وإضافة عناصر أخرى من مكونات الهوية. وأحسب أن ما ورد بشأن التعليم وتطوير المناهج الدراسية في العالم العربي سيسهم بشكل أو بآخر في تحقيق التأثير في الهوية إذا كان المقصود من التحسين ذلك، فالمناهج الدراسية تعتبر إحدى قنوات تشكيل الهوية في أي مجتمع من المجتمعات وذلك من خلال ما تحتويه أو يبث فيها من معلومات وقيم ومبادئ، وإذا كان القادة العرب قد وضعوا مبدأ عاماً، فإن ترجمة هذا المبدأ تحتاج إلى جهود ودراسات متعمقة تبين الجوانب الأساسية في الهوية والتي تحتاج إلى عناية واهتمام.
الجهد يقوم به المتخصصون والعاملون في الحقل التربوي وأهل الصنعة في علم النفس و المناهج, علم الاجتماع, والإعلام. إن العلاقة بين بناء الهوية وتشكيلها والحقل التربوي علاقة وثيقة، فالمدرسة تضع اللبنات الأساسية للهوية من خلال الأنشطة، المعارف, القيم, العادات, والتقاليد المقدمة للطلاب. ويستمر تشكيل الهوية من خلال مؤسسات التعليم حتى الجامعة، وكلما ارتقى المستوى التعليمي، ارتقى مستوى ونوع العناصر التي يتم التعامل معها بشأن الهوية العامة لأبناء الوطن أو الأمة، هذه العناصر تمثل في مجملها ما هو مشترك أو ما يجب غرسه لدى كافة الناشئة. إن دور التربية والتعليم في تكوين الهوية دور بالغ الأهمية والخطورة في الوقت ذاته، وأهميته وخطورته تكمن في النتائج المترتبة عليه، فالتجانس بين أبناء الأمة أمر مطلوب في جوانب لا بد من وجدوها كالحديث والتخاطب بلغة واحدة، والإيمان بقيم مشتركة، والرجوع لتراث حضاري وتاريخ مشترك ومشاعر مشتركه. وإذا كان التجانس مطلوبا فيما له علاقة بالهوية إلا أنه غير مرغوب فيه بشأن طريقة التفكير والتعامل مع المستجدات، فالإيداع لا يتحقق إلا بتنوع طرق وأساليب التفكير, واختلاف المدارس التي يؤخذ بها، فالاعتماد على مدرسة أو طريقة تفكير واحدة تقتل الإبداع حتماً وتعيد الأمة إلى الوراء لتجعلها تجتر تاريخها, وتذكر بما أنجزه الآباء والأجداد, ورغم أهمية ذلك في تشكيل الهوية إلا أنه ليس كل شيء بل هو جزء من مكونات الهوية.
البيان الختامي للقمة اهتم بتطوير البحث العلمي والإنتاج المشترك لكتب الأطفال, وما من شك أن التوجه للاهتمام بهذا الموضوع يمثل خطوة أساسية نحو الأمام, فالأمم تحيا وتنهض بالبحث العلمي, وبمنجزات البحث العلمي تبني صروح التنمية من مصانع ومدارس ومستشفيات, وبالبحث العلمي تتحسن الإدارة, وبه يحسن الإنتاج ويزداد, وبنتائج البحث العلمي نرتقي بمستوى الخدمات. وفي ظني أن العناية بالهوية وتحسينها كما سبق الإشارة تتم من خلال البحث العلمي, فالبحوث, والدراسات يمكن أن تكشف نقاط القوة, والضعف في شأن الهوية, ويمكنها أن تبين ما يجب فعله بشأنها وأفضل الأساليب والبرامج والأنشطة التي تسهم في تشكيلها وبالصورة التي يريدها المجتمع وبما يتفق مع مبادئه وقيمه, ومصالحه, كما أن نتائج البحث العلمي تكشف ما أصاب الهوية من تأثير وتغير بسبب العوامل الداخلية والخارجية. وإذا كانت القمة قد قدمت هذه المبادئ كأهداف يراد تحقيقها على مستوى العالم العربي من الخليج إلى المحيط, فإن الأمر يتطلب وضع الخطط ورسم البرامج وتحديد الأنشطة من قبل الجهات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية ذات العلاقة كوزارات التربية والتعليم, الإعلام, الثقافة, وزارات الشؤون الدينية, الأندية الثقافية والأدبية, والجامعات, فهذه جميعها معنية بتشكيل الهوية ولها تأثير فيها سواء رغبنا ذلك أو لم نرغب. إن العالم العربي من أدناه إلى أقصاه مليء بالكفاءات وذوي الخبرة في مجال العلوم الإنسانية والتربية والإعلام ويمكنهم تقديم الكثير من الخبرات والخدمات بشأن ما تضمنه البيان الختامي, لكن الأمر يتطلب تحديد آليات العمل المشترك الذي يسهل تبادل الخبرات بين أقطار العالم العربي بدلاً من العمل في جزر منفصلة كما هو حاصل الآن, إذ إن العمل الواحد يتكرر في أكثر من قطر نظراً لافتقاد التنسيق بين الكفاءات وأصحاب الخبرة, لقد آن الأوان لترجمة الأهداف والطموحات إلى برامج عمل جماعي تكون نتائجه أفضل ويوفر الكثير من الجهد والمال على الأمة بدلاً من الاستمرار في جهود متناثرة ومبعثرة كما هو حاصل الآن. فالعمل الجماعي هو ركيزة أساسية من ركائز هويتنا, فيد الله مع الجماعة, والذئب يأكل من الغنم الشاة القاصية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي