"العادة والشريعة" (1)

"العادة والشريعة" (1)

يتولد عن الطبيعة البشرية مجموعة من التطبيقات تحت اسم "العادة" يكون لها أثر في رسم نظام الاتصال والعلاقة بين مجموعات الناس القبلية والإقليمية، ويتواصل أثر "العادة" إلى التصورات والمدارك في فهم الأمور والتعامل معها، والقراءةُ المعتدلة تعرف أن العادة جزء من الطبيعة البشرية، وكنتيجة لهذا ليس مقصوداً في الشريعة وفقهها رفع العادات وإسقاطها؛ لأن المحل الذي تولد عنه العادة - وهو الإنسان - قابل للخير والشر والحسن والسيئ كما في التنزيل في قول الله: ?ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها?. وحين تقرأ هدي صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام لا ترى في مفصل شريعته أو مقاصدها دعوة إلى إبطال العادات، بل بقي كثير منها على الإقرار وهو الأصل، لكن ميزان الشريعة الذي جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو إعادة تصنيف العادات إلى مقتضى الحكمة والعدل من حيث قبول أو إقرار العادات المناسبة فطرة وعقلا وشرعا، والنهي عن العادات التي تتسم بمخالفة الفطرة والعقل والشرع، والتي يقع مجموع منها في دائرة الخرافة والوهم، وتقود الإنسان إلى غوائل الشر وربما الكفر بالله في تصورات خرافية عن الكون والتعبد، فتتحول إلى دين مخترع ينازع أصل الفطرة والحق، وربما كانت مجموعة من عوائد السوء والشر لا تصل إلى هذا لكنها تحيط النفس البشرية بالظلم والعدوان وتفريغ النفس من أثر الحكمة والعلم إلى الجهل وقيود التعصب الساذج، وتقرأ في هدي صاحب الرسالة أمثلة لما قضى ميزان الشريعة بسقوطه من عوائد الجاهلية كما في حديث أبي هريرة في الصحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم: (اثنتان بالناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت).
وليس المقصود هنا الكفر الأكبر بإجماع العلماء لكن المراد هنا كفر دون كفر، وترى للفقهاء والشراح تعليقاً في التعبير عن هذا المقصود، ولما كان من عوائد الجاهلية القسوة على النفس عند المصائب وتفريغها من علائق التوكل على الله والإيمان بالقدر مع التحلي بثوب من الرحمة والعاطفة لا تُنزع إلا من شقي جاء قوله عليه الصلاة والسلام عن تلك العوائد الجاهلية: (ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية).
وليس هذا تفريغا للنفس من أثر المصيبة من كل وجه، بل كان صاحب الرسالة يرسم بفعله ميزان الشريعة عند المصيبة ويقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا). وقال لعبد الرحمن بن عوف كما في حديث سهل بن سعد في البخاري وغيره لما ذرفت عيناه عليه السلام لموت ابنه إبراهيم فقال ابن عوف: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: (هذه رحمة..).
وهذا من أصدق الأمثلة لتنظيم العاطفة والتوازن النفسي مع حفظ مقام الإيمان بقضاء الله وحكمه، وفي الجملة فالعادة مقام من الأفعال لا يطرد فيها حكم بل حسنها حسن وقبيحها قبيح، والشريعة لها في العوائد معتبرات:
الأول: رفع العوائد التي تخالف الشرع والعقل. الثاني: تنظيم العوائد المناسبة وترتيب قدرها. ومن مثال ذلك أن الشريعة أقرت حفظ الأنساب بل دعت إلى ضبط ذلك، ومن أخص الوعيد ما جاء في الصحيح من حديث علي بن أبي طالب: (.. ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). لكن حين تطغى مسألة النسب لتكون الميزان الأعلى للفضل والكرم يأتي قول الله: ?إن أكرمكم عند الله أتقاكم?. وحينما تكون جملة النسب عصبة في التداعي على النصرة والدفاع بغير عدل يأتي نهيه عليه الصلاة والسلام عن دعوى الجاهلية، والله الهادي.

الأكثر قراءة