اقتصاديات المعلومات: الوطن في حاجة إلى جميع الموارد البشرية
لقد أدركت الدول المتقدمة أهمية المعلومات كمورد حيوي لا يقل أهمية عن الموارد الأخرى, ولتسارع نمو هذا القطاع فقد أصبحت دول أوروبا والدول الصناعية المتقدمة تعتمد على نتاج الاستثمار في أنشطة المعلومات المختلفة بنسبة 40 في المائة من الدخل القومي لها. هذا ما استدعى الاهتمام بالموارد البشرية كقوى عاملة متخصصة في قطاع المعلومات في هذه الدول، حيث ارتفعت نسب العاملين في قطاعات المعلومات المختلفة إلى 70 في المائة تقريبا من إجمالي القوى العاملة, كما حسب متوسط عدد ساعات العمل الأسبوعية بما يقارب الـ 70 في المائة من عدد الساعات الكلية المسجلة في الأعمال المختلفة، ما أظهر تغيرا كبيرا في هياكل العمالة والتوظيف واسهم في تحقيق النقلة الحضارية والتقدم والتنمية المشهودة في أيامنا الحالية. وقد تم تحديد فئات العاملين في قطاع المعلومات وتقنية الاتصالات بين أساتذة ومتخصصين ومستشارين في المؤسسات الأكاديمية ومكاتب الاستشارات الفنية والمهنية, وفنيين من مبرمجين ومحللين وإداريي قواعد بيانات... إلخ في القطاعات الخدمية, وأمناء مكتبات وإخصائي المعلومات في المكتبات ومراكز البحوث ومراكز المعلومات, ولشمول ذلك في القطاعات الصحية والهندسية والزراعية وغيرها، فقد أوجد ذلك مجالات خصبة للعمل في كل منحى بدون تحديد.
لقد وفرت التطورات الهائلة في تقنية المعلومات عدداً متزايداً من الوظائف المرتبطة بها، بعكس ما كان يتخوف العالم منه في أواخر القرن الماضي عندما توقعوا نسبا من البطالة ستكون وبالاً على الدول النامية قبل الصناعية المتقدمة. لقد أصبحت الفئات المنتجة للمعلومات مثل العلماء في حاجة ماسة إلى الفئات الموصلة للمعلومات مثل العاملين في الاتصالات والإعلام, وها هي فئة المهنيين كالأطباء والمهندسين والمحامين في حاجة إلى فئة العاملين في تخزين المعلومات واسترجاعها وهكذا. كل هؤلاء كونوا مجتمع المعلومات الذي وضح أنه تميّز بقدرته على الاستفادة منها في الخطط والبرامج والبحوث والأنشطة المختلفة وفقاً للتخصص ومستويات وطبيعة الأعمال. ولقد أصبح الشباب في ظل هذا التطور متمكنا من التعامل مع الحاسوب أكثر من أي وقت مضى، وفي أعمال لم نكن نتوقعهم يسبروها حتى أصبحوا مولعين باكتساب مهارات جديدة فيه، ومحاولة الوصول إلى مستوى البراعة ليكونوا متميزين فيصبحوا مستهدفين من قبل الجادين من المستثمرين. في الواقع فقد أصبحت أشاهد فئات من الشباب من الموظفين أو طلبة الدراسات العليا في تخصصات مختلفة يستخدمون المكتبات لإعداد التقارير والبحوث في مختلف الموضوعات التي يرغبون في الكتابة عنها أو مكلفون بإعداد تقارير فيها، وهي بعيدة عن تخصصاتهم الأساسية التي تخرجوا فيها. فلم يعد خريج التاريخ بعيدا عن الجيولوجي ولم يعد الجغرافي بعيدا عن خريج الزراعة, ولم يعد أي منهم بعيدا عن المبرمج والمحلل لنظم الحاسب الآلي. حتى خريجي أقسام اللغة العربية والعلوم الشرعية أصبحت أهدافهم نحو مراكز الإنتاج الإعلامي والشركات المتخصصة في التعريب وصناعة الأفلام الكرتونية، وهذا تحول إيجابي لفئة ظن البعض أن فرصهم تلاشت. لقد أكدت الدول المتقدمة بالاهتمام الكبير بعملية إعادة التأهيل, إن لكل فرد مكانا وموقعا إلا أنه يحتاج إلى إتاحة الفرصة وفتح المجال ليأخذ مكانه ويبرز مهاراته, فهل يمكن القول إننا فعلا نسير في هذا الاتجاه؟.
نحن في أشـد الحاجة إلى تنمية القدرة على الابتكار والإبداع, فاستخدام التقنية لن يتوقف أبداً لأنه في ملاحقة دائمة لتحصيل تقنية سابقة, وبما أن قطاع المعلومات أصبح من أبرز عوامل التنمية المستدامة للمجتمعات المعاصرة حتى في المجتمعات النامية, وأن الفشل في إعداد القوى البشرية سيؤدي إلى فشل جهود التنمية حتى لو توافرت الموارد الطبيعية والمادية, فحبذا لو تم توجيه الاستثمار وتنويعه نحو الاستفادة من خريجي الجامعات (ولا أنسى الخريجات) في التخصصات النظرية والأدبية مثلهم مثل خريجي التخصصات العلمية في وظائف ومواقع ومناصب أحسب أنها توظيف متبادل للقدرات. ويمكن الإمعان في تجارب رواد اقتصاديات المعلومات في العالم مثل اليابان التي تنامت فيها قوة العمل المعلوماتية باطراد وبمعدل سريع منذ بداية السبعينيات وحتى الآن. كما أرى أن تحمل وسائل الإعلام ومؤسسات المعلومات مسؤوليتها في تشجيع أكثر عدد ممكن من أبناء المجتمع للاندماج والانغماس المباشر مع مجتمع المنتجين للمعلومات ومعالجيها، ومن ثم قيام باقي القطاع الخاص بإتاحة الفرص الإيجابية ليحظى بإنجازاتهم وينمي فيهم روح المبادرة والرغبة في التطوير المستمر. قد أخص الجيل الجديد من المستثمرين بأن يتم على أيديهم القضاء على الأميتين التعليم وتكنولوجيا المعلومات فهم من سيضع أولويات المرحلة الحالية، لأنهم أكثر المتتبعين لخطوات الدول التي سبقتنا في هذا المجال. وخير مثال على ذلك ما قامت به اليابان أخيرا عندما همت جميع القطاعات العامة والخاصة، متمثلة في العاملين من جيل اليوم بالاحتفال بتخريج آخر فرد في المجتمع من دورة إتقان العمل على الحاسب الآلي, حيث بذلك قضت اليابان على أمية التعليم وأمية تقنية المعلومات وجهزت المجتمع لأن يكون منتجا أينما كان وعلى مدى الأزمان. فهل نحن مستعدون لتحقيق ذلك قبل أن تتشكل ظاهرة جديدة تدخلنا في أمية من نوع آخر؟