(الماهر الساخر) قراءة في تاريخ عبد الله الوهيبي وجغرافيته!

(الماهر الساخر) قراءة في تاريخ عبد الله الوهيبي وجغرافيته!

عندما يحظى المشهد الثقافي بأسماء مميزة تعمل بصمت وتؤثر العطاء بهدوء بعيداً عن فلاشات الصحافة وبهرجة الإعلام, فإن واقعاً كهذا يقتضي المبادرة نحو ما تستحقه تلك الأسماء من التعريف بها واستعراض منجزها على أمل أن يكون ذلك وسيلة إلى غايات أسمى، ويكون التكريم أوسمة من ذكرى وشهادات من المعرفة التي تقدم للأجيال على مر الزمن .
وهذا ما فعله الأستاذ محمد القشمعي أخيراً وهو يقدم لنا كتابه (عبد الله الوهيبي .. الماهر الساخر) ليعود بذلك الاسم البارز من رواد الثقافة والفكر إلى ذاكرة القراء والمثقفين بعد عامين على رحيله، حيث بدأ الكتاب بمقدمة عنونها بـ (الماهر الساخر) تناول فيها تواضعه وعزوفه عن الإعلام وخدمته للباحثين, كما أشار إلى خفة روحه التي استوحى منها عنوان الكتاب وقال (إلى جانب مشاغله وأعماله الإنسانية والتطوعية فقد كان إنساناً مرحاً ساخراً صاحب نكتة لاذعة ) تلا ذلك الفصل الأول الذي احتوى معلومات ووقفات مع حياته ومراحل تعليمه وعمله إلى جانب مختارات تعبر بوضوح عن رؤى ثقافية وقيم إنسانية تميز بها الوهيبي وقد تم اقتباسها من أبرز الحوارات الصحفية التي أجريت معه, كما احتوى الفصل الثاني شهادات وآراء من أدباء ومهتمين بالشأن الثقافي والعلمي من الذين عايشوه والتقوا به, حيث يقول عنه الدكتور عبد العزيز الخويطر (كان رجلاً وضميره يقظاً تجاه دينه ووطنه, صاحب جهد عملي, نظرته إلى الأمور ثاقبة, يرى في كثير من الأحيان من الأمور الصائبة ما لا نراه إلأ بعد أن تأتي النتائج كما توقع) كما يقول الشاعر سعد البواردي مخاطباً له (افتقدناك متواضعاً رغم شموخك, وعلو هامتك وسمو قامتك, جافيت الشهرة التي يلهث خلفها أنصاف الرجال, لأنك الرجل, والرجل ترفع وتواضع).
كما احتوى الفصل الثالث على جوانب من البحوث والكتب التي أسهم فيها, في حين جمع المؤلف عدداً من مقالات الوهيبي المتنوعة التي كتبها في مرحلة مبكرة وعبر أكثر من مطبوعة منها "اليمامة" و"البلاد" السعوديتان ومجلتا "الجزيرة" و"المعرفة".
يعتبر الوهيبي من أبرز الأسماء التي صنعت منجزاً مقدراً فيما يتعلق بجانب البحث العلمي والمقالات والدراسات لا سيما في مجال الجغرافيا وتاريخ الأماكن ومواطن ذكرها في الأدب, وقد مثلت رسالته للدكتوراة (كتابات الجغرافيين العرب عن شمال الحجاز حتى القرن الرابع الهجري) بحثاً مستفيضاً ومهماً , كما قدم إسهاماً بارزاً في ذلك الإطار فضلاً عن حضوره في كتب ومباحث شهيرة حيث قدّم لمعجم المطبوعات العربية وحقق كتاب (المناسك ) وأماكن طرق الحج والذي سمي كذلك كتاب (الطريق) وهو أحد أهم الأعمال التي قدمها علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر يرحمه الله .

لقد جمع القشمعي في كتابه ملامح بارزة من سيرة تلك الشخصية ومنجزها البحثي والكتابي فضلا عن مواقف وشهادات تؤكد حجم الحضور الذي كان يمثله الوهيبي كشخصية متواضعة تحمل ثقافة نوعية وبساطة إنسانية جمة, وهذا الكتاب إذ ينضم بدوره لمشروع التوثيق الذي يقوم عليه أبو يعرب تجاه رواد الحركة الثقافية, فهو يعيد كذلك طرح الأسئلة حول مدى قدرة الوسط على تخليد نماذجه البارزة بشكل منصف في حياتها حيث يكون العطاء في أوج اشتعاله, لا سيما في حالة الوهيبي التي علق عليها عبد الرحمن الشبيلي بقوله (لا أحد يحيرني صمته وعزلته مثل الدكتور عبد الله الوهيبي حتى كاد يفقده المجتمع الثقافي والتعليمي) وهذا ما يكرس مسؤولية أكبر على عاتق المثقفين على استنطاق هذا الصمت بعد رحيله فالوهيبي بتنوع تجاربه وقياديته وخبراته جدير بأن يستحضر باستمرار وأن يكرس ذلك لدور الإعلام في استيعاب شخصيات لا تسعى للظهور وتجارب تستحق أن يعرفها الناس كما هي على أقل تقدير ودونما حاجة إلى تضخيمها بشكل هي في غنى عنه أصلاً . ولا شك أن هذا الكتاب يستحق قراءة تنهض مجدداً بمشروع عبد الله الوهيبي ليكون معروفاً للمثقفين وللباحثين خصوصاً في مجال التاريخ أو الجغرافيا وعلاقتهما بالأدب, وقد يكون ذلك أيضاً نواة لمؤلفات أخرى تتناول جوانب أخرى من سيرة الوهيبي الحافلة بالتجارب العملية والتربوية والبحثية .

الأكثر قراءة