توطين عائدات الاستثمارات الأجنبية المباشرة
شهدت المكسيك نهاية الثمانينيات الميلادية نهضة اقتصادية عمت معظم جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. عزيت أسباب هذه النهضة إلى مجموعة من السياسات الاقتصادية والمالية التي وضعتها الحكومة المكسيكية قيد التنفيذ منذ منتصف الثمانينيات الميلادية.
ألقت هذه النهضة الاقتصادية بظلالها على متانة الاقتصاد المكسيكي بداية التسعينيات الميلادية محققة العديد من الإنجازات الاقتصادية من السيطرة على معدلات التضخم والبطالة، مروراً بالتوسع في حجم الصادرات، وصولاً إلى نمو اقتصادي في معظم قطاعات الإنتاج الرئيسة.
شجعت هذه الإنجازات الاقتصادية الحكومة المكسيكية على التوسع في فتح الباب أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة للاستثمار في أفرع الاقتصاد المكسيكي المختلفة ولتحقيق هدفين رئيسين.
الهدف الأول توطين عائدات هذه الاستثمارات في الاقتصاد المكسيكي على المدى البعيد كداعم رئيس لاستدامة النمو الاقتصادي. والهدف الثاني توجيه هذه الاستثمارات لمواجهة تحدي العجز المستمر في الحساب الجاري وميزان المدفوعات المكسيكي على الرغم من جهود الحكومة المكسيكية في الموازنة بين حجم الصادرات والواردات مع اقتصادات العالم المختلفة.
يجاوبت الاستثمارات الأجنبية المباشرة مع جهود الحكومة المكسيكية بزيادة مدة تدفقها إلى الاقتصاد المكسيكي حتى وصلت نهاية عام 1993م إلى قرابة 75 مليار دولار أمريكي، وواضعة الاقتصاد المكسيكي على قمة تنافسية الاقتصادات الناشئة في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
كللت هذه الإنجازات الاقتصادية بداية عام 1962 بتوقيع المكسيك على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا في اتفاقية اقتصادية عرفت باسم نافتا NAFTA.
لم ينعم الاقتصاد المكسيكي كثيراً بعد توقيع الاتفاقية بسبب حدوث تطورات محلية ودولية لم تكن بالحسبان. محليا ظهور أعمال عنف جنوبي البلاد على هامش انتخابات الرئاسة المكسيكية، ودولياً رفع البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي معدلات الفائدة فانخفضت أسعار السندات الأمريكية وتراجع الين الياباني مقابل الدولار الأمريكي.
انعكست هذه التطورات المحلية والدولية بالسلب على جاذبية الاقتصاد المكسيكي للاستثمارات الأجنبية المباشرة وبدأت بالهجرة خارج البلاد بعد ازدياد معدلات الخطورة وتراجع عائداتها المتوقعة.
تدخلت الحكومة المكسيكية في الأمر للمساهمة في الحد من الانعكاسات السلبية للخروج المفاجئ لهذه الاستثمارات وللمحافظة على مستوى ارتباط العملة الوطنية المكسيكية "بيسو" بالدولار الأمريكي عند مستوى 3.5 بيسو.
فبدأت الحكومة المكسيكية بالاعتماد على احتياطي العملات العالمية الأجنبية لشراء الكميات المعروضة من البيسو المكسيكي في أسواق العملات العالمية. كان مستوى احتياطي العملات الأجنبية لدى البنك المركزي المكسيكي متواضعاً لدرجة عدم السماح بالاستمرار في عملية الحماية والارتباط والدعم للبيسو المكسيكي.
أسهمت جميع هذه التطورات في وضع نهاية النهضة الاقتصادية المكسيكية نهاية عام 1994م عندما أعلن البنك المركزي المكسيكي فك ارتباط البيسو المكسيكي بالدولار الأمريكي وبالتالي تعويمه مقابل العملات العالمية الأخرى.
تجاوب البيسو المكسيكي سريعاً مع فك الارتباط فانخفض على المدى القصير قرابة 40 في المائة من قيمته إبان فترة الارتباط ولتنتهي مع هذا الانخفاض نهضة اقتصادية استمرت قرابة عقد من الزمن وتبدأ رحلة إصلاح اقتصادي استمرت حتى اليوم.
يعيش الاقتصاد المكسيكي اليوم مرحلة نمو جيدة مقارنة بسابقتها وبوجود قرابة 12 معاهدة تجارة حرة مع مجموعة كبيرة من الدول في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
وعلى الرغم من سياسات الإصلاح الاقتصادي والمالي إلا أن هناك العديد من التحديات ما زالت قائمة. من أهم هذه التحديات: البطالة، التضخم، الدين العام، ووقوع قرابة 40 في المائة من الشعب المكسيكي تحت خط الفقر.
تحمل تجربة الاقتصاد المكسيكي في طياتها العديد من الفوائد والعبر حول أهمية توطين عائدات الاستثمارات الأجنبية المباشرة داخل الاقتصاد الوطني وتوجيهها بما يضمن استقرارها كداعمة رئيسة للتنمية المستدامة على المدى البعيد عوضاً عن المدى القصير.