رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


عروبة الأمس واليوم

إذا كانت كلمة العروبة قد شهدت تزمتا وتنطعا في استخدامها على جميع مستويات الخطابات السياسية، الثقافية، والاجتماعية، فهي اليوم تشهد ركلا ورفسا حينا وتمييعا حينا آخر.
البعثيون والناصريون أو حركة القوميين العرب بإجمالهم جعلوا منها أغلالا شوفينية تقيد الحركة الشعبية في دائرة العروبة، كما يراها منظروها على أساس أنها حاضنة ينبغي أن تذوب وتتلاشى فيها الأعراق والأجناس والثقافات الأخرى، وأن تكون هي الفكرة القابضة على كل الأفكار، وأن على المفكرين والعقول أن تضع بيضها على مزاج العروبة وإلا فإن ذلك سوف يرقى إلى مرتبة الخيانة.
كان هذا السعار الأيديولوجي العروبي هو المسيطر الكاسح القامع لغيره، ولا عبرة في أن هناك بعض التنظيرات التي تؤكد أنها تحترم الفكر الآخر غير العروبي، إذا غالبا ما تنهال على أي بادرة طرح فكري مخالف للتيار العروبي تهم الشعوبية التي يتقاسمها العروبيون مع الإسلامويين.
وحين تهاوت أسطورة (أمة واحدة ذات رسالة خالدة) و(أمجاد يا عرب أمجاد) وزحف فيض غيظ الناقمين على تكميم الأفواه أيام المد الناصري والمد البعثي، ولبس هؤلاء الناقمون على مختلف مشاربهم وأهوائهم، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لبس أولئك عباءة الليبرالية شهدت لقطة العروبة على مختلف الموضات والهوجات الليبرالية، ركلا ورفسا أو تمييعا جعل منها "خداجا" لا قوام لها ولا معنى ولا صفة.
إن هناك حقيقة ينبغي عدم المجازفة بالقفز عليها، وهي أن العروبة ليست شعارا اخترعه زكريا الأرسوزي، أو ميشيل عفلق أو ساطع الحصري أو جمال عبد الناصر أو غيرهم من الساسة والمفكرين، لكنها في الأساس هي بمثابة الأرشيف التاريخي لهذه الأرض الممتدة من جبال الأوراس إلى جبال السروات.. إنها عنوان ملاحم أهلنا بكل ما عانوه من انتصارات وانكسارات وبكل ما فيها من احتواءات لغيرهم من الأعراق أو مجاورات لسواهم من الشعوب، وهو عنوان جغرافي بشري تراثي لغته وصوته وروحه اللغة العربية منذ حاذرت بلقيس مد خطوها على الصرح الممرد إلى اليوم والغد.. ودون هذا العنوان يستحيل أن نعرف أين نكون ومن نكون وكذلك يستحيل أن يعرفنا غيرنا دونه.
الأوروبيون لم يتخلوا عن أوروبيتهم حتى في أثناء هيمنة الأممية أيام سطوة المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي.. وهم اليوم، (أوروبا الشرقية مع أوروبا الغربية) وفي ظل ألوان الطيف الليبرالي أكثر أوروبية من سابق عهدهم وما تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن "أمريكيتها" بل هي نزاعة إلى "أمركة" العالم معها، (لسبب يختلف عن هيمنة العروبة)، فالأمركة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أصبحت جزءا أساسا من نظامها الأمبريالي، أو هو كما تراه، سر تفردها، ولنقل مثل ذلك في الاسكندنافيين، الأستراليين، اللاتينيين، الأفارقة فلا أحد من الأمم يسلخ جلده إكراما لعين أي شعار، حتى ولو كان شعارا يتم تلميعه برذاذ الإنسانية وتلوينه بدعاوى الحرية.
ليست العروبة إلا عنوانا مكثفا لجدل وجدان الأمة مع هذه الأرض .. عنوانا تحاول الأعلام والأناشيد التعبير والثقافة عن أبعاده الوجدانية والإنسانية والطبيعية ومهما يكن الأمر فلا يغير من الحقيقة شيئا، وهو أن العروبة التي يراد لها عند البعض أن تكون سبة ورجسا من عمل الشيطان هي ليست كذلك إلا إذا أرغمت كلمة "العروبة" لترقص مع الذئاب وتمتشق حجر التعصب.. عندها تدخل في نطاق النازية والشوفينية شأنها شأن أي لفظة أخرى مهما كانت حين يتم تحويلها إلى أغلال وجلاد.. أما ولفظة العروبة لفظة محايدة لا تنحاز إلا للدلالة على أمتها، فكيف يطاوع عربي قلبه في أن يجعلها تبدو كما لو أنها لفظة إبليسية؟ أتراه يكون بشرا سويا لو نزعنا عنه تراثه ولغته ومكانه؟. إن فعلنا ذلك فما يبقى منا؟ مجرد رسم دارس، يشار إليه: كان هنا نوع من البشر يقال لهم العرب.. لكنهم خجلوا من عروبتهم فخلعوها فتلاشوا؟ ترى هل هذا معقول؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي