التشريع وفقه المصالح

التشريع وفقه المصالح

حينما تقرأ في علم القواعد وأصول التشريع فإن من الحقائق المستقرة عند أئمة الفقه والاجتهاد أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح ودرء المفاسد، وثمت جملة من التعبيرات عند علماء القواعد الفقهية وأهل الأصول في تقرير هذا المعنى، ومن الجمل العلمية المصنفة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" لكن تبقى هذه الجمل محاطة بقدر بين من الإجمال، ولا يقع فقه لهذا الباب "باب المصالح والمفاسد" بمجرد نظر عابر في مؤلف أو بحث، فإن العارف بتراتيب التصنيف العلمي يدرك أن مثل هذه الجمل هي تقرير عام لمعنى متحقق في الشريعة، لكن الفقه فيه لا بد له من استطراد في قراءة أصول الأدلة وقواعد الاجتهاد.
وتحت هذا المعنى فإن ثمت حكماً مطلقاً يفيد أن كل حكم شرعي أمر الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم به فلا بد أن فيه مصلحة كلية أو راجحة، وكل ما نهى الله أو رسوله عنه فلا بد أن مفسدته كلية أو راجحة، وهذا المعنى الذي ذكره علماء القواعد والأصول يفيد أن الشريعة لا تأمر إلا بما مصلحته كلية أو راجحة بمعنى أنها غالبة، وهذا يعطي قطعية للأحكام الشرعية من حيث هي أحكام الله وشرعه لعباده، فإن الدين كامل بأحكامه ومقاصده، وفي خبر الله سبحانه: ?اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا?.
لكن تبقى قراءة أخرى في أحكام المجتهدين ونظرهم الشرعي فإن مسائل الفروع التي دخلها اجتهاد كثير من أئمة الفقه والأصول هي تحت هذا المعتبر الأصولي العام، وحين يكون النظر بين المصلحة والمفسدة فإن هذا لا يحتاج إلى كبير اجتهاد واعتبار، وإنما قدر المجتهد في قواعد الفقه والأصول واعتبار أدلة وقوع الأحكام أن يكون فقيها في رتب المصالح والمفاسد، وهذا له أصول من أخصها: أن يستبين بالاجتهاد رجحان المصلحة على المفسدة المقارنة في محل الحكم حين يقع حكمه بالقبول، أو رجحان المفسدة على المصلحة المقارنة في محل الحكم حين يقع حكمه بالمنع، فإن من موارد الغلط في هذا المقام أن يقع طلب بالحكم "أمر" لوجه من المصلحة بان للناظر لكنه لم يدرك أن ثمت مفسدة غالبة تقتضي المنع، وكذلك يعرض لبعض الناظرين المنع في حكم لوجه من المفسدة، ربما كان متوهما أو عارضا ويقع عند التحقيق اتصال الحكم بمصلحة راجحة تقتضي القبول، وفي الجملة فالفقيه في الشريعة العارف بمثل هذه التراتيب نظراً وتحقيقاً.
ومن صور هذا المعنى أن يكون المجتهد عارفاً برتب المصالح حين اتصال كل واحدة بوجه مختلف من الحكم عند إيقاع حكم القبول بين الأوجه المختلفة، وكذلك رتب المفاسد عند إيقاع المنع، بمعنى أن يكون فقيها في تقديم أعلى المصلحتين ودرء أفسد المفسدتين، وهذا له تطبيقات كثيرة في الفروع التي يبتدأ فيها الاجتهاد. والله الهادي.

الأكثر قراءة