مدرسة محمد أبا الخيل الاقتصادية ومعاصريه.. حان وقت المراجعة
الحاضر هو امتداد للماضي وخريطة طريق للمستقبل. بهذه المقدمة نقول إن ما مررنا به في النصف الأخير من القرن الماضي هو بكل تأكيد عملية بناء أمة كانت في حال وأصبحت اليوم في حال آخر تماماً. والفرق بين الصفر وأي رقم آخر سواء واحد أو مليار هو بالتأكيد إضافة. إذن النتيجة واضحة أن هناك تقدما تحقق ولا يحتاج إلى كثير حسابات. ومع هذا القول نقول أيضا إن الأمم تتعلم من تجاربها الذاتية قبل تجارب الآخرين، هذا هو أحد أسرار استمرار الأمم العظيمة لمن قرأ التاريخ، والنقد الهادف هو أمر يجب أن يكون مرحبا به لما لذلك النقد من أثر إيجابي على تلافي أوجه القصور والتأكيد على عناصر القوة وعليه رغم أن ثقافة الاسترجاع لا تزال في بدايتها، وبالذات عندما يتعلق الأمر بالأشخاص. ولكن اعلم أن الكثير من الحبر قد أهدر في نقد كثير من التجارب، ولكن ولكونها دائما تكون في نطاق العموميات فإنها فشلت في تحقيق أهدافها. وبالتالي أتمنى في هذا المقام أن نبدأ الحديث عن تجارب ثرية بالأسماء وليس بالعموميات، بهدف تعظيم الاستفادة من التجربة بإيجابياتها وسلبياتها إن وجدت. وطبعا لن نستطيع التحدث عن تجارب طويلة مثل تجربة معالي الشيخ محمد أبا الخيل وزير المالية لأكثر من ربع قرن ولكن آمل أن تكون بداية رغم أملي أن تكون التجربة يتم نقدها من قبل الأشخاص أنفسهم كما هي حال الأمم التي سبقتنا.
والسبب في الكتابة في هذا الموضوع هو ملاحظتي مثل غيري أن أحد الوزراء والذي أكن له كل الاحترام قد بدأ في الكتابة المنتظمة بعد ثماني سنوات في هرم الوزارة في إحدى الصحف اليومية المحلية. وبمتابعتي لما كتب ويكتب، تبادر إلى ذهني سؤال وهو لماذا لا يكتب غيره مثل ما كتب هذا الوزير عن تجربته وأسباب الإخفاقات التي منيت بها وزارته، وكذلك النجاحات إذا وجدت بدلا من العودة إلى التنظير الذي أعُطى ثماني حجج كي يطبقها، ومع ذلك لم نشاهدها على أرض الواقع أو لم يكتُب لها النجاح. وبالتأكيد إن هناك أسبابا يعلمها الوزير وأي مسؤول آخر منعت من تنفيذها أو أنه ثبت فشلها، وكون هذه الوزارة ليست من تخصصي ولا أستطيع أن أناقش أسباب الإخفاق منذ عقود، فلن أناقشها ولكن كل الحديث كان عن المبدأ وضرورة فتح الأبواب لمثل تلك التجارب ودفع أصحابها للتحدث عنها بكل شفافية. وقد سن وأكد هذا المبدأ حديثا خادم الحرمين الشريفين في جولته الأخيرة في جنوب المملكة عندما اعتذر عن أخطاء الماضي والقصور الذي لحق بعض مناطق المملكة من تنمية ومشاريع. وأتصور أنه بعد هذه الكلمات العفوية من خادم الحرمين فإن الباب مفتوح لهذه التجربة على مستوى المسؤولين الأقل، وكما ذكرت ليست بهدف المحاسبة بقدر ما هي كشف للسلبيات والأخطاء حتى يمكن لنا تجاوزها في الحاضر ونحن نعمل على بناء المستقبل. وأعتقد أنه من أهم أسرار عظمة وهيمنة الأمريكان هو هذا النقد المكشوف لكل أعمالهم وتصرفاتهم في الماضي والحاضر وعلى المستويات كافة. وللتدليل فقط لو علمنا حجم الدراسات والكتابات التي أنجزت في قضية انهيار شركة إنرون للطاقة في عام 2001م والتي حسب ما أذكر تتجاوز خمسة آلاف دراسة وبحث وكتاب حول حالة واحدة فقط في أمريكا، فننظر حجم التجربة من حالة واحدة.
وعودة إلى أساس المقالة فإننا وفي هذا الوقت الحساس من التحول الحقيقي في النظام الاقتصادي السعودي نتيجة عوامل داخلية وخارجية في أمسّ الحاجة إلى معرفة كيف تسير الأمور في القطاع الحكومي المسؤول عن الجانب الاقتصادي من رسم للسياسات الاقتصادية وآليات تنفيذها، حيث لدينا تجارب كثيرة كانت ناجحة، ولكن لدينا تجارب أخرى لم تحقق المراد منها نتيجة قصور في الرؤية أو تهور وانفرادية في القرار أو الانعزال عن الواقع. ولو عدنا إلى الوراء قليلا لوجدنا العديد من الأمثلة على النجاح والفشل، رغم علمي الأكيد بأن النيات كانت مخلصة ودليل هذا هو تاريخ بعض القيادات التي عملت في بعض المناصب الاقتصادية في ذلك الزمن أو تلك القيادات التي لا تزال تعمل دون كلل أو ملل في خدمة وطنها. السؤال هنا هل يحق لنا نقد بعض تلك التجارب كما ذكرت بهدف الاستفادة لمواجهة التحديات الحالية والعمل على تلافي الوقوع في الأخطاء مرة أخرى؟
بدأت حياتي العملية تقريبا في آخر سنة عمل لمعالي وزير المالية والاقتصاد الوطني، كما كانت تسمى في حينه الشيخ محمد أبا الخيل، والذي خدم حسبما أذكر نحو ربع قرن في قيادة دفة الاقتصاد السعودي، والذي كانت وزارة المالية فيه هي الأب والأم لهذا الاقتصاد، حيث لم تكن هناك هيئات حكومية كما هي الحال الآن، وحتى صناديق التمويل الحكومية ما زالت تابعة لهذه الوزارة وكذلك الجمارك والعديد من الجهات هي عمليا خاضعة لوزارة المالية رغم أنها من الناحية الهيكلية لا تخضع لها. حتى أن الكثير من الكتابات بكل أسف تجدها تشير إلى مؤسسة النقد ووزارة المالية وكأنهما كيان واحد، نعم الهدف الأساسي لتلك الجهتين هو خدمة الاقتصاد السعودي ولكنهما لهما أهدافا محددة تختلف عن الآخر، فالوزارة المالية مسؤولة عن السياسات المالية، ومتابعة الإيرادات والمصروفات الحكومية فيما مؤسسة النقد مسؤولة عن السياسة النقدية وإصدار العملات والإشراف والرقابة على القطاع المصرفي، وهما جهتان مستقلتان عن بعضهما البعض. والأمثلة والحالات كثيرة التي تحتاج إلى مناقشة وحديث طويل ودراسات مستفيضة، وكلي أمل أن يبادر أصحاب التجربة أنفسهم في نقد التجربة وكشف جوانب النجاح والفشل إذا وجدت، وكذلك الأكاديميون الذين لا يملون من الشكوى والتذمر دون وجود عطاء يذكر من قبلهم وهو أحد الأدوار الرئيسية لهم في كشف الأمور ودراسة التجربة كي يستفيد المجتمع ويستفيد الطلاب وتستفيد الجهات التنفيذية أيضا من أخطائهم.
كان لدينا وزير مالية استثنائي في مرحلة استثنائية لا بد من دراسة تجربته الشخصية وتجربة وزارته بكل تفاصيلها وأبعادها وكشفها للمجتمع بكل أطيافه للاستفادة، وإن لم يحدث ذلك لهذا الوزير وجميع المسؤولين فلن يكون هناك إثراء فكري للتطوير والتحديث، وسنكون مرهونين لفلسفة التجربة والخطأ والتي كانت مقبولة في البدايات ولكنها غير ذلك الآن.