سوق القايله

في خضم الفرح الغامر بالتصاعد البائد للمؤشر قبل الانهيار المشؤوم، كانت الأقلام والأصوات تتبارى في النداء لتعميق السوق وتوسيع أوعيته الاستثمارية، وسال حبرٌ كثيرٌ وضجيجٌ أكثر حول إدراج عديد من الشركات للسوق وحول تجزئة الأسهم، وما إن بدأ منحنى الخطر ينزلق بالمؤشر رغم مواكبة ذلك بدخول شركات إلى السوق وتجزئة للأسهم إلا أنه لم يستعد عافيته، فهو إن نشط لفترة وجيزة عاد يرتكس هابطا، وحين قيل ما قيل عن تعديل أوقات التداول ثم صدر قرار الفترة الواحدة وصارت الظهيرة بحرارتها "تجاكر" حرارة الدماء وفورة الأعصاب حتى حصل سوقنا على اسم "سوق القايله"، وكما تعرفون أعزكم الله، فالقايله هي وقت يمتد من حين نزول أشعة الشمس عمودية تسلخ جلد الأرض وجلود من عليها من بشر وكائنات حية وشجر، إلى انكسار الفي، وإنها لمفارقة أن يصبح هذا الوقت المعتاد في بلادنا لأخذ قسط من النوم وقتا لممارسة النشاط التجاري، يحتشد فيه الناس في صالات التداول أو ينكبون على شاشات الحاسوبات الخاصة بهم في البيوت أو المكاتب في عراك مع هجمات النعاس والتثاؤب. وفي عراك أيضا مع الخوف من دهم المؤشر لهم بقشعريرة غامضة تستدعي في الأذهان قشعريرة قابعة من أيام الطفولة حين كان أهلنا يحذروننا من الخروج في الظهيرة حتى لا يدهمنا "حصان القايله"!!
هذا المدخل "القيلولي" فرضه الوضع الحالي لسوقنا فقد أصبح وضعه لا يمثل اختبارا لمهارات أو خيبات قدرات المحللين الماليين أو الفنيين لحركة تداول الأسهم فقط وإنما اختبار للآلية التي تدار بها السوق وللدعامات والحصانات القانونية والفنية و الهيكلية والنظامية لها.
وإذا كانت جعبة المحللين قد استنفدت أعذارها وتخرصاتها وتنظيراتها وتوقعاتها وظلت تعيد إنتاج نفسها بعبارات وجمل مختلفة، وأنه لم يعد ثمة مزيد لقول أو تبرير فقد وهنت كل الحجج وتهاوت كل التحليلات. فالأمر ليس كذلك بالنسبة للآلية التي تدار بها السوق أو الدعامات والحصانات التي كان ينبغي توافرها فيها.
وقد قيل الكثير عن الإفصاح وعن الحوكمة وعن كفاءة القوى البشرية العاملة فيها أو ذات العلاقة معها وعن تطوير وتحسين الأداء وقيل الأكثر عن منحه شفافية ومصداقية جسورة تشير للمسيء دون حرج، إلا أن هذه الشفافية التي دوخناها تنظيرا، تبدو غير مستحبة، أو أن دورها لم يعد في وارد الحسبان فما إن رفع سيف العقاب لمرات قلائل حتى أحجم هذا السيف عن أن يمضي في إنفاذ حكم الشفافية التي لا دماء حقيقية فيها وإنما حماية قيم العمل والمؤسسة وثروات الآخرين وصيانة وحراسة النظام نفسه.
هذه المراوحة بين تمتين وتقوية هيكلية السوق ومسار الأداء فيها وبين التراخي جعلتها معبرا لرياح لا تستقر على حال، فما إن يصعد المؤشر في بداية نشاط السوق حتى يهبط عند الإغلاق أو العكس.. الأمر الذي جعل المحللين يلهثون خلف المؤشر، عالقين في حركته البهلوانية يهبطون في تشاؤمهم إن هبط ويحلقون في تفاؤلهم إن صعد حتى بات المؤشر نفسه هو المحلل وكذلك هو السوق وضاعت نظريات الاستثمار في الأسهم وأساسيات علم الاقتصاد الرياضي أو السياسي أو التقليدي وطغى حديث ثقافة المال والأعمال، ومضت التحليلات بعيدا عن المكونات والعوامل والمؤثرات للاقتصاد الوطني وعلاقاته بالعالم.. وصار دخول شركة أو دخول هامور للسوق أو خروجهما يحددان اتجاه تداولات السوق، ودعك من الحديث عن الأسهم القيادية وغير القيادية، أو المضاربة والاستثمارية، فعبثا نجد تعليلا لما يحدث من منظور اقتصادي رصين وإنما نترك نهبا لتخرصات المحللين، بما فيهم نحن الذين لا نعرف من أدوات التحليل إلا ما حفظناه من تكرار مقولاتهم ليل نهار، ما كان أفقيا منها يصبح رأسيا وما كان رأسيا يستعرض أفقيته، وكل يغني على ليلاه!!
وها إن السوق، قد أصبحت كالمنبت، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، مع أن عمرها منذ إنشاء الهيئة تجاوز السنوات الأربع أما العمر الحقيقي لها منذ الولادة، فأكثر من عقدين، وهو وضع غريب أشبه باللغز.. عز فيه الطبيب وعز الدواء مع أن الأطباء كثر والأدوية وافرة ولكن؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي