الملك عبدالله والعدل تحت قبة الشورى
في يوم السبت الموافق 26/3/1428هـ تفضل الملك عبدالله بن عبدالعزيز بافتتاح السنة الثالثة للدورة الرابعة لمجلس الشورى، ويحتل هذا العمل تقليداً تجريه الكثير من الدول التي لديها ممارسة برلمانية وشورية، حيث يحضر رئيس الدولة أو الحاكم ويخاطب المجلس عارضاً عليه سياسة الدولة الداخلية والخارجية. كما أن نظام مجلس الشورى في المملكة ينص على أن الملك يقوم بتدشين أعمال المجلس ونشاطاته, وفي هذه الممارسة تأكيد لاهتمام قيادة البلد في المجلس أياً كان هذا المجلس نيابياً أو شورياً والدور الذي يفترض أن يقوم به في بناء المجتمع وتنميته، خاصة في مجال الأنظمة والقوانين والمراقبة والمساءلة الفاعلة للقطاعات كافة. ولقد استوقفتني كما استوقفت غيري من الناس كلمة خادم الحرمين الشريفين بقوة الطرح ودلالة المعاني التي أشار إليها، خاصة أنها جاءت في وقت مهم وألقيت في مكان له أهميته على الصعيد المحلي والعالمي، ألا وهو مجلس الشورى. ولعلي أتوقف في هذا المقال عند بعض ما ورد في الكلمة، إذ أشار الملك عبدالله كيف أن المسؤولية المشتركة بين الجميع تفرض على كل مسؤول تقلد أمراً من شؤون الشعب الكريم مسؤولية القيام بأمانته واضعاً نصب عينيه بأنه خادم لأهله هذا، وما أعظمها من خدمة إذا توشحت بالأمانة والإخلاص والتفاني. وهذا في ظني مربط الفرس في تحقيق النجاح في جميع الأصعدة, فالكفاءة لوحدها لا تكفي, بل لا بد من إخلاص وأمانة, فإذا اجتمعت هذه العناصر في فرد تحقق النجاح في المجال الذي يقوم به, وقد أكد القرآن الكريم على أهمية الأمانة حيث ورد قوله تعالى "إن خير من استأجرت القوي الأمين" وورد عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قوله لأبي ذر عندما طلب الإمارة إنا لا نعطيها من طلبها وإنك امرؤ ضعيف يا أبا ذر. ومع أن هذه المبادئ والأسس الإدارية نكررها على أنفسنا ونقرأها منذ صغرنا, إلا أننا بحاجة إلى أن نفكر في الآليات والأساليب التي تمكننا من معرفة ذي الكفاءة والأمانة والإخلاص, إذا أردنا النجاح والإبداع والتفوق والمحافظة على المكتسبات والمال العام الذي ليس ملكاً لنا وحدنا، بل تشاركنا فيه الأجيال المقبلة التي من حقها علينا أن نسلم لها الأمانة كاملة غير منقوصة.
الآليات والأساليب العلمية والموضوعية شرط أساسي في حسن الاختيار للعناصر القيادية الجيدة في المجالات كافة, وما من شك أن تجارب الدول الأخرى وآلياتها الدقيقة ساعدتها على النجاح, الإبداع, والمحافظة على الممتلكات العامة, فالكفاءة الإدارية للفرد تتحقق بمهارات التنظيم, الإخلاص, حب العمل, المتابعة, الجدية, القدرة على التأثير, حسن التواصل مع الآخرين, توزيع العمل, احترام الآخرين, كسب رضاهم قدر المستطاع, والمساءلة والمحاسبة, وما من شك لديّ أن الميدان سواء في القطاع الحكومي أو الخاص فيه الكثيرون ممن تنطبق عليهم هذه الخصائص. كما أن الميدان مليء بالكفاءات التي قصرت آلياتنا عن التعرف عليهم, لذا لم يستفد منهم المجتمع, ولم ينتفع بكفاءتهم وقدراتهم وإخلاصهم, وأمانتهم، أو ربما نعرفهم، لكن قانون العلاقة والمصلحة الشخصية حال دون الاستفادة منهم.
لقد أشار الملك عبد الله في موقعين من الكلمة إلى العدل، حيث ذكر أن العدل أعتلى أركان الدولة خلال ملحمة التأسيس والتوحيد، وما من شك أن العدل كمبدأ لا يمكن له أن يتحقق بذاته، إذ إنه ليس كائناً حياً، لكن أثره في المجتمع لا يقل عن أثر الإنسان الصالح إن لم يزد عليه ما لم يسع لتحقيقه رجال وتكون له مؤسسات تؤطره وفق نظم وقواعد وإجراءات, وهذا يتمثل في كل الدول والمجتمعات في وزارات العدل ومؤسسة القضاء والشرطة وجميع الأجهزة الأمنية التي تحافظ على الأموال والأعراض والممتلكات، كما تسعى لحماية المجتمع في جميع مكوناته من قيم, مثل, عادات, وتقاليد, وأعراف معتبرة وإلا تحول المجتمع إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف. وبحكم طبيعة البشر, فإن بعض الناس يميلون لاختراق الأنظمة وتجاوزها، ما يترتب عليه ظلم واعتداء على حقوق الآخرين سواء في حياتهم أو أموالهم وأعراضهم, لذا فإن من غايات الشريعة المحافظة على هذه الأشياء كي تستقيم الحياة ويعيش المجتمع في أمن واطمئنان ووحدة ووئام.
ولعل قول الملك عبد الله إن من حقكم عليّ أن أضرب بالعدل هامة الجور والظلم, يؤكد الرغبة الجادة في الوقوف والتصدي للأفعال كافة التي من شأنها أن تلحق الضرر بالمواطنين وتؤذيهم في حياتهم وأنفسهم وأموالهم وحقوقهم, ولعل اختيار كلمة هامة لها دلالتها, فالهامة هي أعلى ما في الإنسان، حيث تعتلي رأسه والضرب على الهامة يترتب عليه الموت أو العجز والشلل بغرض إيقاف مصدر الجور والظلم, وكأني باختيار هذه الكلمة يشير إلى العزم على التصدي لمصادر الظلم مهما كانت ومهما اعتلت مكانة من يمارس الظلم وظيفياً واجتماعياً, إذ لا أحد مستثنى من يد العدل التي تمتد إليهم وتطاولهم مهما كانوا وأين كانوا, إذ لا حصانة لأحد تجرأ وظلم الآخرين واعتدى عليهم أو على حقوقهم.
لقد أعجبني النقل المباشر الذي قامت به قناة الإخبارية وأعقبه فتح المجال لمكالمات المواطنين ومداخلاتهم وردود فعلهم حيال خطاب الملك في مجلس الشورى, وتبين لي ولغيري من المشاهدين كم هي شكاوى المواطنين من بعض القطاعات وضعف خدماتها وقصورها في تأدية دورها وواجباتها, ولو قدر لي وفسرت الأسباب وراء هذا القصور في الخدمات لاستوجب الأمر الإشارة إلى نقص الكفاءة الإدارية وربما قلة الإخلاص والأمانة وإلا فكيف نفسر تردي الخدمات, وهذا يقودنا للبحث في الأسباب الكامنة وراء تولي بعض المسؤولين مهمات ليسوا أهلاً لها.
لو تمعن الفرد في الموضوع لوجد أن غياب الأسس والمعايير الموضوعية وسيادة معايير المحسوبية والعلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة أو ما يعبر عنه بالمثل القائل "شد لي واقطع لك" يمثل سبباً رئيساً في حرمان المجتمع من الكفاءات القادرة المتميزة, لذا لا غرابة من تذمر المواطنين من نقص أو سوء الخدمات في بعض المجالات.
إن حضور وسيادة العمل المؤسسي وفق أسس موضوعية وعلمية كفيل بتحقيق العدل الذي وعد الملك عبد الله في افتتاحه السنة الثالثة للدورة الرابعة لمجلس الشورى, باستخدامه ليكافح به الجور والظلم الذي قد يلحق بالمواطن سواء كان بقصد أو عن غير قصد.
إن إرادة الخير حتماً تنتصر على إرادة الشر مهما توفر له من قوة ونفوذ ومهما تعددت أساليبه وحيله، وإن واقعاً فيه من الشوائب ما فيه يجب ألا يصرفنا أو يحول بيننا وبين السعي والتطلع لمستقبل واعد يحقق فيه المجتمع قوته وتنهض فيه همم أبنائه وتستثمر قدراتهم بصورة مثلى تساعد في استقرار وطمأنينة المجتمع. وما أمة أكد قرآنها على العدل والقسط وامتدح المقسطين حتى مع الأعداء "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" إلا وهي أهل للريادة والتفوق متى ما استطعنا تمثل العدل قولاً وفعلاً.