حسب النظام
هل سبق لك وأن غفوت على مقعدك في المكتب أثناء وقت العمل؟ أظن.. (وهذا الظن ليس إثماً).. كلنا ذلك الرجل، لكن رجلا آخر غيرنا في مكتب ما غافله النوم للحظات وكان مدير الدائرة التي يعمل فيها يعتزم السفر بالطائرة في ذلك اليوم، وقد رأى ذلك الموظف خلال غفوته أن تلك الطائرة التي يفترض أن يستقلها مديره تسقط فهب مذعورا من غفوته ثم هرول إلى مكتب المدير يخبره بما رأى، تشاءم المدير وقرر عدم السفر..
فيما بعد تحدثت الأنباء عن كارثة سقوط الطائرة نفسها.. وفي صباح اليوم التالي وجد الموظف أن مديره يستدعيه ليقدم له شيكا بمرتب شهر مكافأة له على إنقاذ حياته.. وما كاد الموظف المسكين يستقر في مكتبه فرحا بالمكافأة حتى حمل إليه المراسل من المدير قرارا بفصله لأنه نام في العمل!!
هذه الحكاية شبه السريالية تلخص معضلة النظام وتطبيقه، معضلة خلط الخاص بالعام، معضلة الصرامة والمرونة، إذهاب الحسنات بالسيئات.. وليس مهما إن كان العقاب بعد المكافأة بهذه الحدة أو أقل، فالذي يزج بالاثنين في آن واحد يساوي بين ناتجين لا يتساويان لا في المقدار ولا الخطورة أو الضرر.
كم بيننا من رئيس أو مدير أو مسؤول يترنح بين الصلف في العقاب والنخوة في الثواب؟ كم يجازف الواحد منا في لي عنق النظام لثواب غير مستحق أو لعقاب غير مبرر ولا يتردد في اعتبار ذلك (حسب النظام)؟
قيل عن أحدهم إنه حتى قبل أن ينظر في الطلب الذي أمامه، يخط كلمة (لا) أولا، ثم قد يضيف لها كلمة (مانع) لتصبح التأشيرة (لا مانع)؟ ألا يفسر ذلك فهما خاصا للنظام؟ والسؤال المحرج: هل النظام هو الشخص؟ أم المفترض فيه أن يكون نصا عاما اعتباريا محايدا وليس حسب الهوى والمزاج مرة سلاحا للفتك ومرة أخرى قلادة للتتويج؟
أكثر من هذا يتم تعطيل النظام وتغمض عنه الأعين والحواس أيضا فيما لو كان لنا في ذلك مصلحة، لكنه يصبح سدا منيعا وقلعة رومانية بكماء فيما لو كان الأمر يتعلق بسوانا وكنا نحن من سيقرر ذلك.
هناك من يجعل من النظام جثة يلقي بها أمامك لكي تسمم بدنك رائحتها وتصاب بالغثيان وتلعن اللحظة التي طلبت فيها من هذا المدير "الفزعة" في تذليل إجراء إداري لا يشكل القيام به أي مخالفة أو تعدي على النظام، وإنما فقط تفهما واستيعابا للظرف الإنساني وهو الدور ذاته الذي يؤديه مديري أو رؤساء يجعلون من النظام نسيما منعشا ووسيلة نقل آمنة توصل الناس إلى محطاتهم وهم محتفظين بكراماتهم دون قسرهم على إهراق ماء الوجه أو دفعهم إلى فقد حماسهم للعمل والإنتاج أو حتى تحريضهم على كسر النظام والاحتيال عليه جراء إهانتهم!!
ربما بسبب هذا التوجيه القسري للنظام في كثير من أجهزتنا العامة، صار موظفو القطاع العام فاقدين للرغبة في العمل وتبخرت في سنوات قلائل طاقة الإخلاص فيهم، وبالتالي انحطت كفاءة الإنتاج وجودته ونوعيته لإدراكهم أن الحوافز والترقيات والاحترامات خاضعة للمحاباة (تحت مظلة النظام نفسه) كما يشاؤها حضرة المدير، الذي في الوقت ذاته لا يحجم عن تحنيط وقمع من لا يدور في فلكه!!
مدير الدائرة في القصة التي بدأنا بها المقال، في سلوكه تجاه مرؤوسه مرة بالمكافـأة ومرة أخرى بالطرد، هو ذاته النموذج السائد، حتى وإن لم يكن الطرد للموظف في الدوائر الحكومية طردا فعليا إلا أنه في الواقع طرد معنوي، يتم عبر إفراغ حياة هذا الإنسان من فاعلية الإقبال على الحياة العملية وسد نفسه عن أن يكون شخصا خلاقا ومواطنا صالحا وتركه يراكم في أعماقه المرارة والقرف فما تسمع منه إلا التأفف والسخط، ومن لم يصدق ذلك فليفتح حوارا مع من شاء من شباب تكهلوا، على مقاعد العمل كانوا متوهجين فترمدوا، يمنون أنفسهم باليوم الذي لا يعودون فيه إلى هذه الدائرة.. لولا لقمة العيش المغموسة بالسأم، تراهم يبددون أعمارهم، يقرقعون فناجيل الشاي ويطحنون الوقت بالتثاؤب وتقليب صفحات الجرائد في لا مبالاة حامضة!!
تنويه:
ذكرت في مقالتي أول أمس الأحد، أن قصيدة "يا ابن رخيص كب عنك الزواريب" لخالد العلي ومرجعي في ذلك كتاب المرحوم الأستاذ فهد المارك (من شيم العرب ـ الجزء الرابع ـ ص 60 ـ ط 3 ـ 1980 )غير أن هناك من ينسبها للشاعر محمد الضلعان (الإنترنت – جوجل – الضويحي) لذلك جرى التنويه!