الأمة وجراح متراكمة خلال عقود
المستعرض لأحداث التاريخ يجد أن الأمة العربية والإسلامية مرّت بمحن ورزايا كثيرة ومؤامرات تحاك هنا وهناك في عواصم العالم الاستعماري، لكن هذه الأمة بفضل ما منحها الله من عناصر قوة استطاعت تجاوز هذه الشدائد، ذلك أن وقوع أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي تحت وطأة الاستعمار كان من أقسى ما مرّت به الأمة، فالاستعمار البريطاني، والفرنسي، والهولندي، والإيطالي توزع في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي بدءاً من إندونيسيا في الشرق وانتهاء بالمغرب في الغرب، وبفضل تلاحم الأمة، ومقومات القوة الذاتية، وباستنهاض همم أبنائها تمكّنت من التخلص من الاستعمار وتحرّرت من نفوذه العسكري، لكن الاستعمار لم يترك الأمة وشأنها، بل استمر يحيك لها المؤامرة تلو المؤامرة، فكان هذه المرة من خلال استعداء أطراف من الأمة على أطراف أخرى، وذلك بغرس الشك والريبة في النفوس واستشعار الخطر من الأخ والقريب بدلاً من العدو الذي تحول إلى صديق حميم ومخلص في نظر البعض.
ولو تأمل المرء تاريخ الأمة خلال العقود الثلاثة الماضية يجد فيه العجب العجاب مما يبكي الولدان ويحزن الكبار على الوضع الذي آلت إليه الأمة حين دخلت مستنقع الخلافات الداخلية وأصبح التفرق والتشرذم هو السائد بدلاً من المحبة والوئام.
ما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية ولا يزال يحدث، يكشف وبجلاء أن العدو تمكن من الأمة حين استغل التنوع داخل الأمة وصوره بالتناقض وأبرزه على أنه اختلاف يستوجب النزاع والاقتتال بين الإخوة، وذلك بغرض إشغال الأمة في ذاتها واستغلال كل طرف منها ليكون في صف العدو وعلى حساب الأمة.
إن وجود استراتيجية واضحة المعالم لدى العدو يجعله قادراً على استغلال الأحداث الداخلية في كل قطر عربي أو إسلامي، وكذا أي أحداث عالمية أخرى ويوظفها بالصورة التي تخدمه على المديين البعيد والقصير، على حد سواء، ويمكن الاستشهاد بمجموعة أحداث انشغلت فيها الأمة أو أشغلت فيها وأخذت منها أموالاً وجهداً كان يمكن استغلالها في مواقع أخرى أكثر فائدة وأجدى. عندما قامت الثورة في إيران عمل الغرب من خلال إعلامه ودبلوماسيته على تصوير الحدث بالأمر الجلل والحدث الخطر الذي يهدد المنطقة والعالم بأكمله، ما أحدث ردود فعل قوية لدى دول المنطقة، وذلك بهدف درء الخطر الداهم، وقد زاد من ردود الفعل هذه تصريحات المسؤولين الإيرانيين في حينه لتصدير الثورة، وفي وضع كهذا يحق لدول المنطقة التخوف والاستعداد للوقوف في وجه التغيرات القادمة حتى إن تجارة السلاح راجت في تلك الفترة ووقعت العقود مع مصانع السلاح وأنفقت أموالا ضخمة ووفق شروط قاسية ومقيدة لهذه الدول في استخدامها للسلاح، ثم ما لبثت أن اشتعلت الحرب بين العراق وإيران لتأكل الأخضر واليابس وتقتل الملايين من البشر وتستنزف الأموال والطاقات على مدى ثماني سنوات، وانشغل العرب في هذه الحرب خاصة الدول المحيطة، ومع بداية الثمانينيات احتل الاتحاد السوفيتي أفغانستان، واستغل الغرب الحدث ووظفه في تنفيذ استراتيجيته واستنفرت القوى وشحذت الهمم بغرض التصدي لدولة الإلحاد التي احتلت بلاد المسلمين، وجمعت الأموال وتشجع الشباب من كافة الأقطار للذهاب إلى أفغانستان بغرض الدفاع والذود عن بلد من بلاد المسلمين وتحرك الغالبية من الناس وكأنهم تروس في ماكينة ضخمة لا يمكنهم التوقف ولا حول لهم ولا قوة، وما عليهم إلا الحركة بالاتجاه الذي تسير فيه هذه الماكينة الضخمة. وقد غاب عن وعينا في حينه مصير هؤلاء الشباب ومستقبلهم وما يمكن أن يحدث لهم في فكرهم وسلوكهم، سواء أثناء الحرب أو بعد عودتهم إلى بلدانهم، وهذا يكشف غياب التفكير الاستراتيجي السليم الذي يفترض أن نهتم به ونجعله جزءاً من حياتنا اليومية نوازن به ومن خلاله الأمور كافة. وما إن وضعت حرب إيران والعراق أوزارها ورحل الاتحاد السوفيتي من أفغانستان إلا وتحل بالمنطقة كارثة جديدة وكأن هذه الأمة على موعد مع قدر الحروب والنكبات، حيث احتل العراق الكويت ودخل العالم العربي والإسلامي في فوضى فكرية وتوتر نفسي وفرقة سياسية انعكست آثارها على الناس والمجتمعات وحلت لغة الشتائم والسباب محل لغة المحبة والإخاء، ودخلت المنطقة في مرحلة تصعيد جديد وزادت النفقات العسكرية واشتري السلاح من كل حدب وصوب وجلب الخبراء وقامت الحرب وحررت الكويت ولكن بعد دمار نفسي وبشري ومادي لا نظير له، وحوصر العراق وفتكت الأمراض بأهله وحلت به الرزايا والمحن التي خطط ونفذ لها بإتقان، ثم جاءت النكبة الأخيرة واحتل العراق بالكامل ودخلت القوات الأجنبية في حكم البلاد ومرة أخرى تدخل المنطقة وبالذات الدول المجاورة في وضع لا تحسد عليه، ذلك أن عدم استقرار العراق يهدد استقرار هذه الدول، وتدخل الأمة باحتلال العراق نفقاً مظلماً لا يمكن التنبؤ بالوقت الذي ستخرج منه، وتزيد النفقات العسكرية وترتفع قيمة فاتورة التسلح، خاصة بعد أن تحول العراق إلى ساحة حرب وصراع بين أبنائه من طرف وقوات الاحتلال من طرف آخر، وبين أبنائه مع بعضهم البعض خاصة بعد أن نفخ المحتل الأمريكي في ناقوس الطائفية والعرقية، حتى تحول العراق بفعل النزعة الطائفية والمذهبية, التي أحسن الاحتلال استغلالها وأصبح مصدر تهديد لدول الجوار، ذلك أن شرارة الطائفية من الممكن أن تشتعل في المجتمعات القريبة من العراق، وقد ربط احتلال العراق وأفغانستان بالإرهاب، حيث عملت ماكينة الإعلام الأمريكي ودبلوماسيته على إثارة مخاوف الناس في المنطقة بل في العالم أجمع من الإرهاب وما قد يحدثه من تغيرات في العالم، وأصبح هاجس الإرهاب يلازم الكبير والصغير والمسؤول والفرد العادي. ومع اشتداد الأزمة في العراق لاح في الأفق مشكلة جديدة تمثلت في البرنامج النووي الإيراني حيث بدأت الدبلوماسية الأمريكية تثير هذا الموضوع على كل الأصعدة من خلال وكالة الطاقة الدولية وفي مجلس الأمن وصاحب هذا ضجيج إعلامي قوي أحدثت أمريكا من خلاله حالة من الارتباك وأثارت بسببه المخاوف من توجه إيران النووي وربط ذلك بالأطماع الإقليمية لإيران حاضراً ومستقبلاً، خاصة بعد أن تتمكن من امتلاك السلاح النووي، مع أن المسؤولين الإيرانيين يؤكدون التوجه السلمي للبرنامج. ويستمر مسلسل الاستثمار الذكي للأزمات الموجودة في المنطقة والمبني على استراتيجية تستهدف إشغال الأمة واستنزاف ثرواتها، حتى إن الأمة ما إن تخرج من أزمة حتى تدخل في أزمة أخرى جديدة. ويدخل العدو الأجنبي في كل ظرف جاعلاً من نفسه الصديق المخلص بينما الأخ والجار هو العدو والمهدد مستغلاً أخطاء وهفوات تحدث من هذا الطرف أو ذاك، ومضخماً التباينات العرقية والثقافية والمذهبية لتجد الصدى والاستجابة من أبناء الأمة وفي كل المستويات الشعبية والرسمية. ولا أدل على ذلك من استغلال الحالة اللبنانية حين دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في هذه القضية ولعبت على التناقضات الموجودة بين أبناء الوطن الواحد، ما مزق الشمل ومزق الوحدة وأحدث البلبلة وعدم الاستقرار، إن وضع الأمة إزاء مشكلاتها خلال العقود الماضية أشبه ما يكون بالقنبلة العنقودية التي تخرج منها قنابل والقنابل ينتج منها قنابل جديدة، ما إن تنفجر قنبلة وتقتل مَن تقتل وتجرح وتدمر إلا وتوجد قنابل أخرى جاهزة للانفجار حال الاقتراب منها، وهكذا أصبحت الأمة ما إن تفيق من أزمة حتى تجد أزمة أو مجموعة أزمات في انتظارها. حقاً إنها فتن كقطع الليل المظلمة، فهل تفيق الأمة من غفوتها وتدرك أنها داخل مسلسل خطط له بشكل دقيق ومحبك بدلاً من أن تستجيب لمخططات الأعداء، وتنتظر ما يفعل بها، إن الإفاقة رهن بالوعي، والحصانة، واستثمار عناصر القوة التي حباها الله وفق استراتيجية سليمة. أرجو أن يكون ذلك.