عودة العامل السياسي
عاد العامل السياسي ليلعب بقوة دورا في تحديد مسيرة سعر برميل النفط. فالأسبوع الماضي وتحديدا يوم الخميس قفزت الأسعار بنحو دولارين إلى أعلى معدل لها في غضون فترة ستة أشهر، وأعقبتها يوم الجمعة ارتفاعات أخرى، خاصة في الأسواق الآسيوية التي أضافت 43 سنتا ليتم تداول البرميل بأكثر من 66 دولارا.
وفي تقدير منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) على لسان أمينها العام الجديد عبد الله البدري، فإن السوق تحظى بالكميات اللازمة التي تحتاج إليها، وأنها متى ما شعرت المنظمة بالحاجة إلى ضخ المزيد من الإمدادات فستفعل.
وفي واقع الأمر فإن السوق تحتاج إلى التطمين، أكثر مما تحتاج إلى إمدادات جديدة رغم النمو في الطلب وتراجع المخزون في الدول المستهلكة، خاصة الولايات المتحدة حيث يشهد مخزون البنزين تحديدا تراجعا للأسبوع السابع على التوالي، إلا أن واقع الأمر أن العامل السياسي عاد ليلعب دوره المعهود وليعيد تأكيد تلك الرابطة للنفط بالتطورات الجيوسياسية، وإعطاء هذه السلعة ذلك البعد الاستراتيجي، الذي يجعل البعض يضعها في مرتبة من السلع غير تلك التي يوجد فيها الطماطم والخيار مثلا، وبالتالي يصبح تأثرها بعوامل العرض والطلب من نوع مختلف ولو أنها في نهاية الأمر تظل خاضعة لذلك القانون الذي يحكم أي سوق.
وجردة سريعة للتصاعد في سعر البرميل الذي شهده الأسبوع الماضي تشير إلى الارتباط مع حادثة اعتقال 15 من البحارة البريطانيين بواسطة إيران. وبما أن إيران في حال مواجهة مع الغرب وتحديدا الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن الحادثة تبدو وكأنها حلقة جديدة في المواجهة بين الطرفين، الأمر الذي يزيد من حالة عدم اليقين تجاه ما يمكن أن يحدث. وحلقات التصاعد تبدو متتالية فهناك الأرضية القائمة على المواجهة التي يظل مسرحها مجلس الأمن والقرارات الصادرة بدفع بريطاني وأمريكي مباشر. ثم جاء اعتقال البحارة على هذه الخلفية، ثم تراجع طهران عن وعدها إطلاق سراح المجندة والتسريبات عن تقديم البحارة إلى محاكمة بتهمة اختراقهم المياه الإقليمية الإيرانية، الأمر الذي يشير إلى سلسلة متصاعدة من الخطوات تجعل احتمال انفجار الوضع وخروجه على السيطرة احتمالا قائما.
وبما أن إيران تعد منتجا ومصدرا رئيسيا، وإعلانها المتكرر أنه ستستعمل كل الأوراق المتاحة لديها للدفاع عن نفسها في وجه ما تراه من هجمة غربية عليها، فإن هذا الموقف هو الذي ينشر حالة من عدم الطمـأنينة في السوق ويدفع الأسعار إلى أعلى، خاصة عندما يضاف إلى ذلك الوضع الجيوستراتيجي لإيران على مضيق هرمز الذي تمر عبره 17 مليون برميل يوميا، تمثل نحو خمس الإنتاج العالمي اليومي وخمسي ما ينقل بناقلات النفط. وهذا ما يدفع بالوضع إلى دائرة الخطر.
الوضع الحالي يقارب في الشبه ما كان عليه في مطلع عقد السبعينات عندما كانت السوق تمر بحالة تغير هيكلية ونمو في الطلب لم تصحبها زيادة مماثلة في الإمدادات، ثم جاءت حرب تشرين الأول (أكتوبر) العربية ـ الإسرائيلية في عام 1973 لتوفر البعدين السياسي والاستراتيجي اللذين قاما بنقلة نوعية للسوق والصناعة عموما.
تلك الفترة عرفت بفترة الصدمة النفطية الأولى، أعقبتها الصدمة الثانية في نهاية العقد ذاته وبسبب اندلاع أحداث الثورة الإيرانية. ورغم أن السوق كان تتمتع وقتها بإمدادات كافية، إلا أن سعر البرميل وصل في بعض الأحيان إلى قرابة 40 دولارا، وهو أعلى سعر يحققه في تاريخ الصناعة، وذلك بسبب حالة الهلع والخوف من حدوث حالة من انقطاع الإمدادات، لذا أصبح الهم الأساسي كيفية تأمين الحصول على أي كميات من البراميل وبأي سعر.
الدروس التي يمكن استخلاصها من تلك التجارب تتلخص في أن التطورات السياسية لها دور في تحديد تحركات سعر برميل النفط، وأن "أوبك" لا تستطيع في مثل هذه الحالة السيطرة على الوضع، لأن المنطلق الرئيس يقوم على حسابات سياسية ليس لـ "أوبك" قدرة على التأثير فيها.
المجال الوحيد الذي يمكن للمنظمة العمل فيه يتمثل في تأكيد قدرتها على الضخ بإمدادات كافية إلى السوق لتطمين المستهلكين أن احتمالات حدوث انقطاع أمر يمكن معالجته، خاصة من قبل كبار المنتجين أمثال السعودية ممن لهم القدرة الإنتاجية الفائضة والمنافذ التوزيعية والتسويقية التي توفر بدائل مثل خط بترولاين الذي يمتد من الشرق إلى الغرب وينتهي عند ينبع على ساحل البحر الأحمر، وكذلك خط سوميد الذي يتجاوز قناة السويس لينتهي عند سيدي كرير قرب الإسكندرية على البحر المتوسط. وهذان المنفذان وبالتوسعة التي تمت في طاقتهما للنقل تجعلهما توفران سندا لبعث الاطمئنان، إضافة إلى الجهود التي يبذلها المنتجون الآخرون.
لكن مهما حدث على هذه الجبهة تظل الانطباعات والقناعات الخاصة لها دورها في تحريك الأسعار، وهي حالة تحتاج إلى التعايش معها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.