رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


من مؤسسة نقد إلى بنك مركزي!

[email protected]

عقد في مدينة جدة في الأسبوع الماضي ملتقى اقتصادي لافت، نظمته شركة المعارض والمؤتمرات المتخصصة المحدودة (تريدكس). غطى الملتقى أربعة مواضيع مهمة، شملت الخدمات المصرفية وخدمات نشاط التأمين، وخدمات الاستثمار وأسواق رأس المال، وكذلك خدمات قطاع العقار تنظيما وتطويرا وتمويلا. وقد خصص لكل موضوع من هذه المواضيع الأربعة ثلاث جلسات، تناولت كل جلسة جانبا من جوانب كل موضوع: فبعضها ناقش الواقع المحلي لكل نشاط وأحيانا البعد الدولي له، وبعضها تناول التحديات التي يواجهها كل نشاط، في حين غطت جلسات أخرى الجانب الشرعي لهذه الأنشطة.
كانت محاور الملتقى من مواضيع الساعة بالنسبة لاقتصادنا، ويصلح في الواقع كل منها أن يكون موضوعا لملتقى قائم بذاته. ونظرا لأهمية وحيوية هذه المواضيع، لاحظت مشاركة جهات حكومية ومؤسسات خاصة عديدة. وقد نجح القائمون على الملتقى في استقطاب شخصيات اقتصادية بارزة من القطاعين كليهما.
كان من أوائل المشاركين والمتحدثين معالي محافظ مؤسسة النقد الأستاذ حمد السياري الذي ألقى كلمة عدد فيها جهود المؤسسة، بخاصة في السنوات الأخيرة، في تطوير القوانين واللوائح المنظمة لأعمال المصارف، وفتح المجال لعمل المصارف الأجنبية. ومع صحة كل هذا، إلا أن المشاهد هو أن اقتصادنا ما زال يعاني معاناة كبيرة من تخلفنا التنظيمي عن مجاراة التطورات والأحداث الاقتصادية التي تدهمنا، إلي الحد الذي جعل العديد من المراقبين الاقتصاديين يصابون بالدهشة من عدم قدرتنا على توقع التطورات الاقتصادية المصاحبة لانضمامنا لمنظمة التجارة العالمية، ولنمو عدد السكان ونمو إيرادات النفط، ومن ثم تأخرنا في الاستعداد المسبق لهذه الأحداث بما يناسبها من سياسات اقتصادية وتنظيمات إدارية وقانونية.
وفي تصوري، أن أحد أكبر إشكالاتنا في إدارة اقتصادنا الوطني، هي أن الأحداث تسبق دائما استعداداتنا التخطيطية والتنظيمية اللازمة لمواجهة التطورات المتوقعة، ما يفوت علينا إمكانية استغلال الفرص الاقتصادية الكبيرة والواعدة التي يزخر بها اقتصادنا ويفرضها منطق السوق ومنطق نمو الطلب المصاحب لنمو أعداد السكان.
حدثني أحد كبار رجال الأعمال أنه أنفق قبل أربع سنوات مبلغ 50 مليون ريال لإعداد دراسات اقتصادية واسعة وعميقة عن حاجة البلاد المتوقعة إلى خدمات المياه والكهرباء. وأن هذه الدراسات دلت على حاجتنا الماسة والملحة لإقامة مجموعة من المشاريع العاجلة لمواجهة نمو الطلب المتوقع في قطاعي خدمات المياه والكهرباء. لكن بيروقراطية الجهاز الحكومي أخرت قرار الموافقة على البدء في التنفيذ مدة أربع سنوات على الأقل، في الوقت الذي أكدت فيه هذه الدراسات أن احتياطي البلاد من المياه لا يزيد عن ثلاثة أيام، فيما كان احتياطينا من الكهرباء يقترب من الصفر!
وعلى غداء عمل، في نهاية هذا الملتقى، دعانا إليه الأستاذ عبد الكريم أبو النصر، الرئيس التنفيذي للبنك الأهلي التجاري في مبنى البنك الرئيسي في جدة وبحضور كبار مديري أقسام البنك، أثرت أمامهم التخوف الذي ينتاب كثيرا من المهتمين والمتابعين للشأن الاقتصادي من أن تمرق فترة الطفرة الراهنة دون أن تمكننا من استغلالها الاستغلال الأكفأ. إن التحديات الاقتصادية الكبرى التي تواجه اقتصادنا في مجال البطالة وتوفير خدمات التعليم والرعاية الصحية والمنافع العامة والخدمات البلدية، تستدعى منا سرعة أكبر في اتخاذ القرارات ومرونة أعلى في تبني السياسات الاقتصادية الفاعلة التي تسمح أن يأخذ القطاع الخاص دوره المأمول في الإسهام في حل مشكلاتنا الاقتصادية. لا يمكن أن نطلب من رجال الأعمال القيام بأدوار جديدة وفاعلة دون أن نوفر لهم البيئة القانونية والتنظيمية الصالحة لممارسة أنشطتهم. لقد تأخرنا بما فيه الكفاية، والتحديات تتعاظم وتأخير مواجهتها لا يفيد بل يجعل الحلول أكثر صعوبة. إنني أتمنى أن نستفيد من تجاربنا الماضية ونتعلم منها.
بعض أجهزتنا الحكومية بحاجة لإعادة تنظيم ولتغذيتها بكفاءات اقتصادية أكثر حيوية وشبابا، كفاءات تتحلى بالعزيمة والرغبة على مواجهة التحديات وتبني الصالح من السياسات. في الجلسة الأولى في ذلك الملتقى، جرت مناقشة دور مؤسسة النقد العربي السعودي في تنظيم الأعمال المصرفية، وشارك فيها كل من: الشيخ وهيب بن زقر رجل الأعمال المعروف ( أو التاجر كما يحلو له أن يصف نفسه) والخبير المصرفي الأستاذ عبد الهادي شايف، كان واضحا أن هناك إحساسا لدى الجميع بأن التطور الذي بلغناه والأحداث الاقتصادية المتسارعة التي تجري وستجري في اقتصادنا، تستدعي أن تخرج مؤسسة النقد من عباءة وزارة المالية، وأن تمارس دورها المستقل الذي ورد أصلا في نظامها الأساسي منذ إنشائها في بداية الخمسينيات الميلادية من القرن الـ 20، لأن استقلالها يضمن سرعة اتخاذ القرار. ونبه الشيخ وهيب بن زقر إلى أن على مؤسسة النقد باعتبارها سلطة نقدية في البلاد، أن تكون مستعدة دوما لتوضيح موقفها حول بعض المسائل الاقتصادية الملحة التي تعد من صميم عملها في الوقت المناسب وبالسرعة المناسبة، مثل مسألة تغير سعر صرف الريال أو بيان النسبة الصحيحة لتضخم المستوى العام للأسعار في اقتصادنا، لأن تأخرها عن القيام بالأدوار التي تعد من صميم عملها، من شأنه أن يترك أثرا سلبيا في الاقتصاد، بل وقد يعطل اتخاذ بعض القرارات في القطاع الخاص.
لقد حان الوقت فعلا أن تتحول مؤسسة النقد إلى بنك مركزي يؤدي دورا مستقلا عن بقية الوزارات الاقتصادية، وأن يشكل لها مجلس إدارة من الشخصيات الاقتصادية الوطنية التي تتمتع بالخبرة العميقة والكفاءة العالية، ليرسموا من منظور كلي سياسات نقدية حقيقية مناسبة لما تتطلبه كل مرحلة من مراحل تطور اقتصادنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي