هذا ما نريده حقا من الهيئة العامة للاستثمار
يشتكي الكثير من رجال الأعمال من الجهات الحكومية المنظمة Regulators باعتبارها جهات تقوم بتنظيم السوق المسؤولة عنها بروح رقابية تقليدية شديدة بهدف الحد من التجاوزات الاستثنائية من الدخلاء والمتطفلين والمحتالين، وهي بذلك ودون أن تعلم ضيقت على الأغلبية الجادة في العمل في هذه الأسواق، حتى باتت العوائق أكثر من المحفزات مما أدى إلى عزوف كبير من رجال الأعمال الجادين عن الاستثمار في الكثير من الأسواق تاركين الساحة للقلة القليلة التي آمنت بضرورة الاستثمار في السوق السعودية والتصدي للعوائق, وإن عظمت، ولجهود فردية مبعثرة هنا وهناك تسهم إسهامات ضعيفة كونها لا تستجيب للطلب المتنامي في أي سوق إلا بعد وقوع الأزمة.
ووقوع الأزمة يعني بطبيعة الحال ارتفاعا كبيرا لأسعار السلع أو الخدمات في هذه السوق بشكل كبير مما يؤثر سلبا في حياة المواطن العادي متوسط الدخل بما يجعله عاجزا عن الوفاء بالتزامات الحياة الكريمة له ولأسرته. وكلنا يعلم الإفرازات السلبية الناتجة عن أوضاع هكذا، وما مشكلة السوق العقارية والسوق الزراعية وأسواق مواد البناء والتشييد والبناء عنا ببعيد, حيث أصبحت الأسعار لا تطاق بحال من الأحوال، وأصبح المواطن يتساءل: ماذا تعني زيادة المرتبات بنسبة 15 في المائة مقابل زيادات وصلت إلى أكثر من 300 في المائة؟.
كل جهة حكومية تنظيمية لا ترى في عملها إلا التنظيم الذي يغلق كل الثغرات التي يمكن للمتلاعب أن ينفذ منها مما قد يسبب لها الحرج، وهي تقوم بذلك مغلبة الفكر الاحترازي على الفكر التحفيزي متناسية أن التنظيم الاحترازي يضعف قوى السوق ويقلل من الجودة ويرفع الأسعار، ومتناسية أيضا أن لديها ضعفا كبيرا في الإمكانات الرقابية القادرة على الضبط والإحالة والمحاسبة, وهو أمر كثيرا ما تشتكي منه لتبرير فشلها في الرقابة والضبط والمحاسبة، ومتناسية أيضا أن المتلاعبين الكبار أكثر ذكاء منها، فهم قادرون على كسر التنظيمات أو عصرها في أسوأ الأحوال بما لديهم من طرق وأساليب وقوى مالية وعلاقات تمكنهم من تخطي أشد التنظيمات صرامة, التي إن استطاعت رصده فإنها تعجز عن ضبطه ومحاسبته.
لقد أثبتت التجارب بما لا يدع مجالا للشك أن وضع قوانين وأنظمة وإجراءات احترازية متشددة للحد من التلاعب والغش أدى إلى المزيد من التلاعب والغش، كما أدى إلى تدمير متتال للبيئة الاستثمارية بشكل أخرج الكثير من الجادين لتبقى الفرصة للمتلاعب والغشاش والدخيل، كما أثبتت التجارب فاعلية وضع قوانين تحفيزية باعتبار أن الأغلبية جادة وتريد الاستثمار النظامي لتحقيق أهدافها واعتبار المتلاعبين والغشاشين والنصابين والدخلاء حالات استثنائية يجب التعامل معها بشكل فردي من خلال تعزيز قوى السوق التي تؤدي تلقائيا إلى غياب هؤلاء ومن خلال التعامل معهم بصرامة من خلال آليات رقابة غير تقليدية تمكنت الجهات المنظمة من ضبطهم وإحالتهم ومعاقبتهم العقاب المناسب.
إن الفكر التحفيزي هو دون أدنى شك فكر ترويجي، فمن يحفز يروج بشكل تلقائي، ومن يعجز فهو يثبط بشكل تلقائي أيضا، والفكر التحفيزي الترويجي هو فكر غائب عن مؤسساتنا التنظيمية اعتقادا منها بأنها جهات تنظيمية لا دخل لها بالترويج بحال من الأحوال. وللحقيقة أقول نعم لا نريد لها أن تكون ترويجية بالشكل المباشر المتعارف عليه، بقدر ما نريدها أن تكون ترويجية بطريقة غير مباشرة من خلال إيجاد بيئة تشريعية ونظامية وإجرائية محفزة للغالبية الجادة وطاردة للأقلية المتلاعبة والطار ئة والدخيلة. نريدها أن تكون ترويجية بالتعرف على أبعاد دورها ونتائج تشريعاتها وتنظيماتها وإجراءاتها على السوق التي تنظمها على المدى البعيد من حيث عدد ونوع المتعاملين، ومن حيث كم وجودة وأسعار الخدمات والسلع، ومن حيث تأثير كل ذلك في جودة حياة المواطن وكرامته.
وحكومتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين, أيده الله, أنشأت مؤسسة تحفيزية "ترويجية " مهمتها الأساسية إيجاد بيئة عمل صحية جاذبة للاستثمار من أجل تحقيق نمو اقتصادي سريع ومستمر، أي أن مهمتها الأساسية مهمة ترويجية لتغطي الضعف في الفكر والسلوك الترويجي لدى الجهات الحكومية المنظمة بحيث تقوم بدراسة دورية للتشريعات والأنظمة والإجراءات لتقييم مدى تأثيرها في البيئة الاستثمارية سلبا أم إيجابا لتعزز الإيجابي وتعالج السلبي، وكلنا أمل في أن تقوم هذه الجهة, وهي الهيئة العامة للاستثمار, بدورها الحقيقي في تحسين البيئة الاستثمارية لتوطين رؤوس الأموال السعودية ولجذب رؤوس الأموال الخارجية للمساهمة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في البلاد.
ختاما، لايسعني إلا أن أثني على دور القطاع الخاص السعودي وعلى رجال الأعمال المخلصين الذين استثمروا في القطاعات كافة وقدموا المقترحات والنماذج الناجحة التي لم تترك عذرا للقائمين على الجهات الحكومية المنظمة, الذين نتوقع منهم أيضا نهوضا كبيرا بمسؤولياتهم بما يتناسب ونهضة القطاع الخاص لإيجاد بنية تشريعية ونظامية وإجرائية محفزة ومعززة لمجتمع الأعمال للقيام بالمهام الموكلة إليه بكل كفاءة واقتدار ليوازن العرض والطلب بشكل يحافظ على استقرار الأسعار ويوفر الخدمة والسلعة عالية الجودة مناسبة السعر.