رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الذات العربية في قمة الرياض بين المكاشفة والإيهام

[email protected]

لقد سبق لي الكتابة حول القمم العربية عدة مقالات مناقشاً ومحللاً المشكلات التي تواجه هذه القمم سواء في توقيت انعقادها أو مكانه أو الموضوعات التي تناقش في هذه القمم أو القرارات التي تخرج بها. وقد حملت هذه المقالات عناوين القمم والهمم العربية, والقمم والهمم العربية مرة أخرى, وآخرها مقال قمة الرياض والآمال المعقودة الذي نشر في هذه الزاوية وفي هذه الصفحة وذلك في تاريخ 1/3/1428هـ.
وقد انتهت القمة بسلام رغم عدم حضور بعض القادة بذواتهم وإرسالهم من ينوب عنهم, ورغم مجيء وزيرة الخارجية الأمريكية وزيارتها المنطقة بغرض إيجاد شيء من الريبة والشكوك بين القادة، خصوصا أنه سبق انعقاد القمة حديث عن طلب وضغوط أمريكية لإحداث تغيير في المبادرة العربية, وقد عبر الرئيس اليمني علي صالح في كلمته التي ألقاها في الجلسة الختامية عن غبطته وفرحته لنجاح القمة. وأشار إلى أن القادة جاؤوا للقمة وهم متوترون, وأنا لا أستغرب مثل هذه الحالة النفسية للقادة بسبب ما سبق القمة من محاولات لتعكير صفوها وإفسادها كما حدث من الرئيس الليبي أو كما فعلت كونداليزا رايس حين طالبت العرب بأن يمدوا أيديهم لإسرائيل وأن يوجدوا أفقاً تشعر فيه إسرائيل بالأمن.
وحيث انتهت القمة وصدر عنها ما يسمى إعلان الرياض من بناء الإنسان إلى الأمن القومي العربي, لذا لا بد من الوقفة المتأنية مع ما ورد في إعلان الرياض ومع مجريات القمة، خصوصا ما ورد منها في خطب القادة وذلك بغرض التعرف على الذات العربية في حضورها وهويتها وأهدافها وتطلعاتها المستقبلية. الذات العربية ليست مصطلحاً مجرداً بل هي إنسان له مبادئ وقيم ويعيش على أرض وله رسالة وأهداف ومصالح, إنسان له أرث وتاريخ وجغرافيا ليست كأي جغرافيا أخرى. وقد عبر رئيس القمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عن هذه الذات بجميع جوانبها الإيجابية والسلبية، وعبر عن أمانيها في كلمته الافتتاحية حين قال: منذ أكثر من ستين سنة أنشئت الجامعة العربية لتكون نواة الوحدة العربية الحقيقية, وحدة الجيوش, وحدة الاقتصاد, ووحدة الأهداف السياسية، وقبل ذلك كله وحدة العقول والقلوب. ولا شك أن السؤال ــ والكلام لخادم الحرمين الشريفين ــ الذي يطرح نفسه علينا: ما الذي تحقق من ذلك كله؟ إن الجواب على هذا يكشفه واقعنا الذي يؤكد أننا اليوم أبعد عن الوحدة من يوم أنشئت الجامعة. إن هذا الجزء من كلمة خادم الحرمين الشريفين تشخيص وفي الوقت نفسه مكاشفة للذات, إذ إن هذا التشخيص لم يترك في الأدراج بل أعلن على الملأ وسمعه القريب والبعيد والعدو والصديق. هذه المكاشفة تأكدت مرة أخرى وفي مقطع آخر من الكلمة حين أعاد خادم الحرمين الشريفين اللوم على قادة الأمة العربية وليس على الجامعة التي ليست إلا كياناً يعكس واقع القادة بخلافاتهم ورفضهم الأخذ بأسباب الوحدة.
وإذا كان هذا الطرح يختلف عن الطروحات في العقود الماضية التي خدرت الشعوب العربية بشعارات فضفاضة دون نتائج تلمس على أرض الواقع, إلا أن ما طرح أثناء القمة في بعض الجوانب لا يتسق مع مكاشفة الذات التي تمت الإشارة إليها سابقاً في كينونتها وحقها وتراثها, وحتى أكون محدداً لا بد من الإشارة إلى استعراض الجهود التي بذلت خلال الفترة الماضية من قبل الجامعة أو من قبل رئاسة الدورة السابقة التي كانت للسودان, إذ إن الجهود التي بذلت في الشأن اللبناني خاصة لم تؤت أكلها، وليس الملوم على ذلك الجامعة أو الرئيس السوداني, بل الملوم بالدرجة الأولى اللبنانيون الذين تخندق كل واحد منهم في موقعه وبدأ يرمي الآخر بنباله, وحتى نكاشف ذاتنا بشكل أكبر لا بد من الإشارة إلى أن الوضع اللبناني لا يمكن له أن يستمر على هذا الوضع المزري لولا خدمة المحفزات التي يتلقاها من أطراف عربية وإقليمية ودولية, وجدت في الحالة اللبنانية خدمة لمصالح ضيقة فعمدت إلى أمدادها بما يضمن لها الاستمرار.
إن الإسهاب في ذكر الإنجازات أو الجهود المبذولة نوع من أيهام الذات وإرضائها ولو مؤقتاً سواء كانت هذه الذات تلك التي داخل قاعة المؤتمر أو الذات الأكبر في الخارج.
وحتى نقف مع الذات داخل قاعة المؤتمر وقفة مكاشفة لا بد من الإشارة إلى بعض ما ورد في كلمة أمين جامعة الدول العربية عمرو موسى حين قال: ومع ذلك فإننا نتابع حركة دبلوماسية نرجو أن تكون متوجة لاستئناف عملية السلام. وأخشى أن يكون ما ذكره الأمين العام عمرو موسى هو زيارات كونداليزا رايس التي أبدعت مصطلح الدبلوماسية النشطة التي ربطتها بتغيير المبادرة العربية.
إن مصارحة ومكاشفة الذات تستوجب أن نسترجع ما صرح به السيد عمرو موسى حين أكد أن المبادرة العربية ماتت وقرأت الفاتحة عليها في حينها, فما الذي حدث من تحولات؟! على أرض الواقع يقر موسى نفسه والعالم يرى أن إسرائيل ممعنة في غيها، حيث المستعمرات وهدم البيوت وسرقة الأراضي وقتل الأطفال والشيوخ والنساء, بل وتهدد المسجد الأقصى في الحفريات, كما أنها سبق لها أن داست على المبادرة العربية تحت أقدامها حين اقتحمت قواتها جنين والضفة الغربية كافة وحاصرت الرئيس عرفات في مقر السلطة الفلسطينية, وها هي تكرر رفضها المبادرة قبل القمة وأثناءها وبعد انتهائها وتلاوة بيانها.
هل التبرير الذي ساقه السيد عمرو موسى من أن المبادرة العربية لم تخدم بالشكل المطلوب ولم تشرح لهم بالصورة المناسبة, تبرير مقبول؟ لا أعتقد ذلك، فالمبادرة محددة المعالم واضحة لكن ربما أننا لا نعرف من نتعامل معهم أو نعرفهم ونتجاهل الحقائق التي نعرفها فيهم, وفي هذا مشكلة مرتبطة بذاتنا التي يجب أن نكاشفها ونصارحها بهذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الأخرى, فعدم قدرتنا على فهم الآخر أو تجاهلنا الحقائق التي نعرفها عنه يمثل مشكلة فينا نحن وليس في الآخرين، لأن الآخرين يتعاملون معنا وفق هذا السياق النفسي الذي يدركونه ويرسمون خططهم التفاوضية والتكتيكية والاستراتيجية على أساسه, وليس أدل على ذلك مما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية حين تجد نفسها في مأزق تتظاهر بتحريكها عملية السلام وترسل وزير الخارجية أو مندوباً للمنطقة، حتى إذا ما انجلت أزمتها أدارت ظهرها للعرب ولقضية السلام.
مصارحة الذات تستوجب أن نقول إن من ركائز الهوية التي أكدها إعلان الرياض العمل الجماعي, وهذا لا يتأتى إلا بإشراك الشعوب, لأن في الشعوب عقولا تفكر وتبدع ولديها حماس وغيره, وإذا تلاقى التفكير المتزن والعميق مع المشاعر المنضبطة يكون الإبداع والعطاء. أما أن تصادر حقوق الشعوب وتهمش وتوضع على الرف ولا يكون نصيبها إلا ذكرها في الكلمات دون مشاركة حقيقية، فهذا سيبقي الوضع على ما هو عليه من ترد وتشرذم وضياع للحقوق.
إن الاستبصار بالذات على المستوى الفردي والفئوي والجماعي وإبراز مكنوناتها الإيجابية والسلبية كفيل بأن يحدث التغيير الذي ننشده جميعاً شعوباً وقيادات ومؤسسات، ومتى ما أوجدنا البيئة المناسبة سيكون الاستبصار الموضوعي الذي يحدث النقلة المتوخاة. إن من مكاشفة الذات الاعتراف بافتقاد الاستراتيجية على المستوى العربي، ما جعل العرب يهرولون في مسلسل التنازلات الواحد بعد الآخر، حتى بقينا نتطلع إلى اللحظة التي يقبل فيها العدو تنازلاتنا، ونحن في هذه الحالة لو تمت ممنونون له ومقدرون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي