التشغيل الذاتي و التعاقدي للمستشفيات .. الإداري الحافي
إذا كان دور بعض الأكاديميين الإداريين سلبيا بسبب ضعف مستوى الخبرة الإدارية (وهو ما بسطنا الحديث عنه في مقال سابق(، فلعلنا في هذا المقال أن نتطرق للطرف الآخر من الإداريين ممن عملوا لفترة طويلة "ولا يعني بالضرورة أنهم اكتسبوا خبرة مفيدة" لكنهم يفتقدون المؤهلات العلمية. فهم يديرون وفقا لمن وصف القرآن منطقهم "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون".
قد يبدي بعض القراء تحفظهم على هذا العنوان، لكن ما قصدته من الإداري الحافي هو ذلك الإداري الحافي والخالي من مؤهلاته العلمية "ممن لا يحمل إلا مؤهلات محدودة كالثانوية العامة مثلا". هذا النموذج من الإداريين يفتقد الحذاء المناسب للمشي فوق المشاكل الإدارية. لذا فإنه يمشي في الطرقات كمن يمشي حافي القدمين. ولا شك أن من يمشي حافي القدمين يكون معرضا للشوك وحرارة الأرض خصوصا في فصل الصيف. كما أن حافي القدمين تصبح قدماه معرضتين للمواد الخطرة، خصوصا في المناطق التي لا يعرف طرقها جيدا.
من المؤسف أن مستشفيات التشغيل الذاتي يثقلها جيل من الإداريين غير المؤهلين لكنهم تقلدوا مناصب إدارية رفيعة بسبب الأقدمية وتراكمات السنين. فللأسف أن الإداري الحافي ربما لا يحمل إلا مؤهلات متواضعة كالثانوية العامة. علاوة على ذلك فإنه لا يعرف من الإدارة إلا إصدار الأوامر الروتينية ومراقبة الدوام. هذا النموذج من الإداريين يفتقد القدرة على القيام بدور قيادي حقيقي وفق نظرة مستقبلية تفاعلية. فمن يفتقد المهارات الإدارية "الحقيقية" ما عساه أن يقدم لموظفيه؟ كما أن هذا النوع من القياديين يفتقد "لكرزما" القيادة نظرا للنظرة الدونية التي يحس بها من قبل موظفيه، خصوصا الموظفين الذين هم أقل منه مرتبة - وظيفيا- لكنهم أعلى أكاديميا. فالموظفون الذين يقعون تحت هذا النمط من الإداريين يعتقدون أحقيتهم بالإدارة. لذا فمع مرور السنين تتسع الفجوة بين مدير لا يحمل إلا مؤهلات محدودة وجيل صاعد مؤهل علميا مكبوت إداريا. فعقدة النقص وقلة التأهيل بمثابة اللعنة التي تطارد هذا النموذج من المديرين. فمستشفيات التشغيل الذاتي تعاني صراعا داخليا وحربا باردة بين جيل صاعد مؤهل ومبدع وجيل آخر وارث للوظيفة ومحدود التأهيل. فبيئة العمل المحيطة بمثل هذا النموذج ستكون غائمة.
للأسف أننا كثيرا ما نجامل الأشخاص على حساب المصلحة العامة. فتعيين الموظفين القدامى غير المؤهلين علميا تقديرا لكبر سنهم وليس لتأهيلهم يفقد مستشفيات التشغيل الذاتي الإنتاجية والمخرجات المتوقعة منها. فاحترام كبير السن جزء من الإرث الاجتماعي الذي يقودنا أحيانا للخلط بين احترام الأشخاص والمجاملة في تعيينهم في مناصب قيادية. بل لا أبالغ إذا اعتقدت أننا بهذا التوجه نغلب احترام الأشخاص على احترام الوطن. فالاستثمارات المالية العالية في المجال الصحي إذا لم يتم الإشراف عليها من شخص مؤهل تأهيلا حقيقيا، فإن ذلك يؤدي لعدم استثمار الموارد المالية والبشرية بشكل أمثل، وهو ما اعتقده نوعا من أنواع عدم حمل الأمانة على أصولها.
من أجمل ما يميز نظام ديوان الخدمة المدنية ونظام الموارد البشرية لدى شركة أرامكو السعودية أنهما يمنعان محدود التأهيل والشهادة من تقلد وظائف قيادية. فمهما بلغت كفاءات محدود التأهيل فهناك خطوط حمراء لا يمكنه تجاوزها. فمثلا لا يمكن لحملة الثانوية تجاوز المرتبة العاشرة حسب نظام الخدمة المدنية، كما أن نظام الموارد البشرية في "أرامكو" يمنع تجاوز حملة الثانوية بلغ مراتب تنفيذية قيادية. لذا فإن أنظمة الموارد البشرية للتشغيل الذاتي يجب أن تجعل سقفا أعلى للوظائف التي يتقلدها محدودو التأهيل. كما يجب ربط الراتب المقدم للموظف وقيمته الحقيقية في سوق العمل.
المشكلة الكبرى في نموذج الإداري الحافي أنه يحارب الطاقات المؤهلة. كما أن هذا النموذج يصعب التخلص منه بسبب محدودية الفرص المتاحة له في سوق العمل. فالراتب الذي يحصل عليه في مستشفيات التشغيل الذاتي عالية ما يجعله يتشبث بالوظيفة بكل ما أوتي من قوة. فمثلا لو تم استقطاع قرابة 50 في المائة من رواتب محدودي التأهيل، فإنهم لن يتركوا وظائفهم لمعرفتهم المسبقة بدنو قيمتهم الحقيقية في سوق العمل. في الجانب الآخر تؤدي الحرب الباردة بين الإداري الحافي وموظفيهم المؤهلين لأن تضطر الطاقات المؤهلة للبحث عن أجواء عمل أكثر صحية ومن ثم مغادرتهم.
لا شك في أن غياب القياديين الإداريين في المجال الصحي أدى بشكل مباشر لفقدان الثقة بالقادة الإداريين في المستشفيات. فبعض الأطباء فقد الثقة بقيادة الإداريين بسبب كثرة النماذج غير المؤهلة والمخجلة من الإداريين.
لعل الفرق بين المهندس والفني يشابه بحد كبير الفرق بين الإداري المؤهل والإداري الحافي.. فالمهندس لديه قدرة التعامل مع المتغيرات الفنية العديدة لكن الفني لديه القدرة مع التعامل مع المشاكل الفنية التي تدرب عليها فقط, ويتعامل معها بشكل يومي فقط. فالفني يتعامل مع المشكلة على ضوء الحدث بينما يتعامل المهندس مع المشكلة وفق القضية.
عند توقعنا إنجازا من الإداري الحافي بنفس توقعنا من الإداري المؤهل فنحن كمن يتعامل مع الفني على أنه مهندس.