نفوس ٌ كريمة ٌ وأعمال جليلة ٌ
يوفق الله تعالى بعض الناس إلى بذل بعض مالهم أو علمهم أو جاههم أو مكانتهم الاجتماعية في أعمال خيرة نافعة للناس والمجتمعات. وهؤلاء، لعمرك، قد وسعتهم عقولهم أكثر مما وسعهم مالهم أو جاههم. ولذا فهم يتلذذون بعقولهم وتميزهم فوق تلذذهم بمالهم أو جاههم أو سائر اللذات التي يتقاسمونها من بقية الخلق, لكنهم آثروا على أنفسهم تقديم الفضائل والالتزام بها، لأن عقولهم قد هدتهم إلى حقيقة الحياة. فمن يتدبر عواقب الأمور وينظر في أحوال الدنيا ينتهي إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة لا غير! يقول ابن حزم في كتابه "مداواة النفوس": أن كل غاية يظفر بها الإنسان عاقبتها حزن، إما لذهابها عنه أو ذهابه هو عنها، إلا العمل لوجه الله عز وجل؛ فعاقبته محمودة في العاجل والآجل. أما العاجل فيظهر في قلة الهم بما يهتم به الناس، فيعظم هذا الطراز دوما في عين الصديق والعدو، وأما الآجل فهو ثواب الله وهو خير وأبقى.
أمثال هؤلاء يتنعمون بعقولهم واختياراتهم لأنهم يبذلون أنفسهم فيما هو أعلى منها. وليس لهم ذلك إلا في ذات الله تبارك وتعالى. فتراهم يدعون إلي حق، أو يدفعون عن الناس هوانا، أو ينصرون مظلوما، أو يتصدون لعمل عام لم يُوجب عليهم. أما باذل نفسه في عرض من أعراض الدنيا، فهو كبائع الجواهر بالحصى. والحق أنه لا مروءة لمن لا دين له، والسعيد هو من أنست نفسه بالفضائل والطاعات، ونفرت من الرذائل والمعاصي. والعاقل لا يرى لنفسه ثمنا إلا الجنة.
هؤلاء يذكروني دائما بما روي عن النبي، صلي الله عليه وسلم، حيث قال: ليس للإنسان من ماله إلا ما أنفق، وقوله أيضا عليه الصلاة والسلام: نعم المال الصالح للعبد الصالح.
مثل هذا الطراز من البشر يجملون الحياة حول الناس، ويبثون الأمل فيهم، وينشرون السلام بينهم. ما أجمل أن يشعر الناس أن هناك من يهتم بأحوالهم ويتحسس همومهم دون أن تكون له غاية عندهم.
منذ فترة طويلة، وأنا أتابع بعين التقدير والإجلال الجهد الخير الكبير الذي ألزم سمو الأمير عبد العزيز بن أحمد بن عبد العزيز نفسه به، وبذل وما زال يبذل جاهه من أجله. أخذ الرجل على عاتقه مهمة اجتماعية جليلة، لا يقتصر نشاطها على الداخل بل يمتد ليشمل كل منطقة شرقنا الأوسط والأدنى حتى إفريقيا. ألزم الأمير عبد العزيز نفسه ببذل جاهه ووقته وجهده برعاية المؤسسات والتنظيمات المهتمة بأمراض العيون ومكافحة الإعاقة البصرية. ولو تصدى كل من حباه الله تعالى بجاه أو مال لرعاية جانب مما يهم الناس من القضايا الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، لأمكننا تصور مقدار ما تحققه مثل هذه الاهتمامات من سلم اجتماعي، ومقدار ما تبثه من مشاعر الأخوة بين الناس، فضلا عن المثوبة و السعادة التي ستعود علي الباذلين لجاههم في خدمة إخوانهم وأوطانهم.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ! ولن يقدر الناس نعم الله عليهم إلا إذا فقدوها. والبصر من أجل نعم المولى على البشر. وبذل الجاه في رعاية المؤسسات التي تهتم بتخفيف معاناة الناس الصحية هو من أجلّ وأشرف الأعمال الخيرة.
أصبح هذا العمل الجليل هم هذا الأمير، يرعاه داخليا وخارجيا، ويسافر من أجله إلى أصقاع الدنيا. وكان آخر أنشطته رعايته للمؤتمر الدولي التاسع لمجلس الشرق الأوسط الإفريقي لطب العيون، الذي عقد في دبي الأسبوع الماضي، وحضره مندوبو نحو 50 دولة، والعديد من المؤسسات الإقليمية والدولية، كالبنك الإسلامي للتنمية، مؤسسات برنامج الخليج العربي (أجفند)، مستشفى الملك خالد لطب العيون، إضافة إلى المجلس العالمي لطب العيون، الجمعية الأوروبية لتصحيح العيون الانكسارية، والأكاديمية الأمريكية لطب العيون. وعندما يرعى سعودي بإخلاص وهمة عالية هذا المحفل الكبير فإنه يقدم صورة مشرقة براقة للعمل الخيري والرعاية النبيلة لأنشطة جليلة، تترك أثرا بعيدا في المحافل واللقاءات الدولية وتصحح كثيرا من الانطباعات والأفكار المغلوطة عن مجتمعاتنا، التي طالما تلاعبت بها وتصيدتها بعض وسائل الإعلام الغربية.
بحث هذا المؤتمر سبل توحيد وتنسيق الجهود المحلية والإقليمية والدولية لمكافحة فقد وضعف الإبصار من أجل تحقيق أهداف المبادرة الدولية للبصر 2020، التي تهدف لتحسين سبل الوقاية وتخفيض أعداد المصابين بإعاقات بصرية جزئية أو كلية. ومن فضل الله تعالى أن 75 في المائة من مسببات فقد أو ضعف البصر يمكن تحاشيها. هناك 160 مليونا من ضعاف البصر في العالم، ونحو 150 مليونا آخرين يعانون عيوبا انكسارية، وهم بهذا يشكلون نسبة 5 في المائة من سكان العالم. وسيكون لمثل هذه الجهود المنظمة أثر بالغ في تحقيق أهداف هذه المبادرة الدولية.
عندما أرى نشاط واهتمام هذا الأمير الكريم أكبره وأجله وأقدره، وأعجب كيف يُفوّت بعض وجهاء مجتمعنا على أنفسهم مثل هذه الفرص العظيمة ويحصرونها فقط في رعاية بعض الأنشطة الترفيهية التي تقل أهميتها الحقيقية في سلم الأولويات من منظور المجتمع. لا بأس من رعاية هذه الأنشطة الترفيهية، وإنما ليكن لمثل هؤلاء اهتمامات أخرى أولى وأجل يبذلون فيها من جاههم ومالهم، فيفيدون ويستفيدون.
يذكرني ما ألزم هذا الأمير الجليل نفسه به بقول الأخطل:
والناس همهموا الحياة ولا أرى طول الحياة يزيد عن خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخرا يكون كصالح الأعمال