الموجة الاقتصادية السعودية الخمسينية الأولى (3 من 3)
مرت منظومة الاقتصاد السعودي خلال الموجة الخمسينية الأولى (1950 – 2000م) بموجتين متسلسلتين من التباطؤ في النمو الاقتصادي. شكلت هاتان الموجتان مرحلة انتقالية من حالة نمو اقتصادي خلال الستينيات والسبعينيات الميلادية من الألفية الماضية إلى حالة إعادة تأسيس خلال العقد الحالي.
ولما احتوته مرحلة التباطؤ في النمو الاقتصادي، سواء الأولى (1980 – 1990م) أو الثانية (1990 – 2000م)، من تحديات جسام أسهمت في إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية السعودية وجدولة مشاريعها، فإنه من الأهمية بمكان قراءة حيثيات تلك المرحلة في محاولة متواضعة لترتيب وجهات النظر حول آلية عمل منظومة الاقتصاد السعودي، لا سيما وهي تنتظر مرحلة النمو الأولية من الموجة الخمسينية الثانية (2000 – 2050م) مطلع العقد المقبل، بإذن الله.
أشار الدكتور عبد العزيز الدخيل في كتابه "النظام المصرفي السعودي وأداؤه في المملكة العربية السعودية" (لندن – 1995م) إلى العديد من التطورات الاقتصادية، التي رسمت ملامح منظومة الاقتصاد السعودي خلال الثمانينيات والتسعينيات الميلادية من الألفية الماضية.
دخلت منظومة الاقتصاد السعودي عقد الثمانينيات الميلادية من الألفية الماضية واضعة نصب عينها النوعية عوضا عن الكمية من خلال الخطة الخمسية الثالثة (1980 – 1985م). حيث كانت أهم أهداف الخطة التركيز على النوعية عوضا عن الكمية في تحديد مقومات النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من طموح أهداف الخطة الخمسية الثالثة (1980 – 1985م)، إلا أن تنفيذها لم يخل من التحديات الإقليمية والعالمية.
حيث زاد التوتر السياسي في منطقة الخليج وانخفضت أسعار النفط في الأسواق العالمية دون المستوى المتوقع. أسهمت هذه التطورات في انخفاض عائدات الدولة من النفط من 328.6 مليار ريال في 1981م إلى 118 مليار ريال في 1984م. وانعكس هذا التراجع بدوره بالسلب على إجمالي الناتج المحلي فانخفض تباعا من مستوى 522.8 مليار ريال في 1981م إلى مستوى 358.1 مليار ريال في 1984م.
شكلت هذه التطورات الاقتصادية تحدي تنفيذ المشاريع الاقتصادية المجدولة خلال الخطة الخمسية الثالثة (1980 – 1985م) مما أسهم في زيادة الفترة الاستهلاكية للمشاريع القائمة ونقل ما لم يتم تنفيذه إلى الخطة الخمسية الرابعة (1985 – 1990م) بعد إعادة دراسة جدواها على منظومة الاقتصاد السعودي.
أسهمت هذه التطورات في تطوير أهداف الخطة الخمسية الرابعة (1985 – 1999م) عما كانت عليه. لعل من أهم الأهداف المستحدثة في هذه الخطة إعادة توزيع مساهمة قطاعات منظومة الاقتصاد السعودي المختلفة بحيث تتاح الفرصة لقطاعات الصناعة، والأعمال، والزراعة بشكل أكبر للمساهمة في نمو منظومة الاقتصاد السعودي من تلك الفرصة المتاحة لقطاعات الإنشاءات، والمواصلات، والاتصالات.
وعلى الرغم من إعادة توزيع مساهمة قطاعات منظومة الاقتصاد السعودي المختلفة، إلا أن تذبذب أسعار النفط في الأسواق العالمية لم يسهم بالسلب على معدلات نمو منظومة الاقتصاد السعودي خلال تلك الفترة فحسب، وإنما وضعها على مشارف الموجة الثانية من التباطؤ في النمو الاقتصادي (1990 – 2000م) والموجة الأخيرة من الموجة الخمسينية الأولى (1950 – 2000م).
دخلت منظومة الاقتصاد السعودي عقد التسعينيات من الألفية الماضية وهي مسلحة بأهداف الخطة الخمسية الخامسة (1990 – 1995م) والسادسة (1995 – 2000م). تزامن تنفيذ هذه الخطط مع تطورات سياسية، وعسكرية إقليمية أسهمت في تعديل أهدافها بما يتوافق والمستجدات الراهنة.
لعل من أهم أهداف الخطة الخمسية الخامسة (1990 – 1995م) التركيز على الاستثمارات كمحور ارتكاز رئيس في تحقيق النمو الاقتصادي خلال تلك الفترة. حيث وضعت الخطة معدل نمو سنوي للاستثمارات بمقدار 2.7 بالمائة، ومنهجية تنفيذ من خلال تنويع وتدعيم دور القطاع الخاص في عملية استدامة التنمية، وتحسين مستوى ميزان المدفوعات في الميزانية العامة للدولة.
و لكي تتحقق أهداف الخطة الخمسية الخامسة (1990 – 1995م)، فقد تم تطوير بعض سياسات الإصلاح الاقتصادي، التي من أهمها تطوير السوق المالية كقناة تمويل لمشاريع القطاع الخاص، وتخصيص مجموعة من المؤسسات العامة لتحسين دورها في منظومة الاقتصاد السعودي.
أضف إلى ذلك تشجيع المصارف السعودية على التوسع في عمليات الإقراض المتوسط والبعيد الأجل مع عدم إغفال تطوير سياساتها، وتشجيع قيام المؤسسات المالية غير المصرفية كشركات التأمين والمؤسسات الاستثمارية للمساهمة في رفع كفاءة السيولة وطاقتها الاستيعابية.
وعلى الرغم من سمو هذه الأهداف إلا أن تنفيذها لم يخل من التحديات التي كان منبعها الاقتصاد السياسي الإقليمي، واقتصاديات النفط العالمية عندما انخفضت أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى أدنى مستوياتها في 1998م. أسهمت هذه التطورات في تعديل أهداف الخطة الخمسية السادسة (1995 – 2000م) بما يضمن استدامة التنمية والسيطرة على تحديات تلك الفترة.
تمر منظومة الاقتصاد السعودي خلال العقد الحالي بمرحلة إعادة تأسيس ثانية للدخول في موجات النمو الاقتصادية المقبلة بإذن الله. وكثيرة هي الفوائد التي نستنتجها عند قراءة سجل رحلة عبور منظومة الاقتصاد السعودي الموجة الخمسينية الأولى (1950 – 2000م). ففي هذه القراءة من الوقائع ما لا يساعد على تفسير المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية لرسم الملامح المقبلة فحسب، وإنما ما يمكن من إعداد المقومات الكفيلة باغتنام فرص الغد وبلوغ آفاقه.