عراق شذى حسون
مهرة من العراق .. اسمها شذى حسون فازت ليلة الجمعة الماضية في مسابقة ستار أكاديمي فتوجوها نجمة
مهرة لم تكر في مضمار الرافدين.. ولم تمشط قدميها على أرصفة شارع أبي نواس ولا شارع السعدي.. أو سواهما.
ولا هي هزت بشقاوة الأطفال جذوع نخيل الأعظمية أو البصرة ولا لعبت في الرصافة لعبة "الطفيرة"، وما وقفت مع صويحباتها تلوح للريح بضفائرها على جسر "المسِّيب" ولا هي رتعت على شط الفرات بين المصاطب تقضم السمك "المسقوف". ولا في حواري الكاظمية لتأكل "الباجه".
ربما فقط غصت بحزن مواويل ناظم الغزالي (قل للمليحة بالخمار الأسود) أو كرج الدمع وهي تستمع لفاضل عواد "لا خبر لا جفية لا حامض حلو لا شربه" أو لخضيري أبو عزيز: (عمي يا بياع الورد) أو لصوت مائدة نزهت وهي تصدح (حمد يا حمود يا حميد يا غالي). وربما اختلج دمها وفار وهي تغطس في الصوت الرخيم لحسين نعمة وهو يتهدج:
"مرينا بيكم حمد وأحنا في قطار الليل"
التي كتبها بدمه الشاعر مظفر النواب كما غناها بعدئذ إلياس خضر.
أو لعلها مسكونة بخذر أشجان، عفيفة اسكندر، صدْيقه الملايه، رضا علي، حسن الداخل، زهور حسين، لميعة توفيق، فؤاد سالم، مسلية مراد، ناصر حكيم، سعدون جابر وغيرهم ممن كانت تصحو عليهم البيوت في العراق وتغفو.. مثلما كانت تصحو على لعلعة النجر في الفجر ورائحة البن والهيل وعلى نكهة خبز التنور الطازج و"القيمر"، وعلى لجلجة خلاخيل الصبايا على شط العرب وهي تملأ جرار الماء، البيوت ذاتها التي أصبحت لا تنام من لعلعة الرصاص ودوي انفجار السيارات المفخخة ورائحة البارود، منذ هبط القراصنة الأمريكان على مائدة الرشيد فنهبوها وعلى بيت الحكمة فسطوا على كنوزه، وعلى ملحمة جلجامش لطمس ا لخلود وعلى ألواح حمورابي وعجائب بختنصر، وسملوا عيني تمثال بدر شاكر السياب، لأنه كان قد حذر منهم:
"يا أخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال
بين المعابر والسهول وبين عالية الجبال
لا تكفروا نعم العراق.. هي جنة
فحذاري من أفعى تدب على ثراها"!
عاشت شذى حسون بعيدا عن أرباض العراق وأهوار الرافدين.. فلا هي شربت من شموس السماوة ولا اختلج دمها بأريج حدائق بابل ولا تملت محياها في بركة المتوكل وإنما انتظرت طويلا نخوة المعتصم متغربة مع أهلها في منافي الهرب من جلاوزة صدام.. كملايين غيرها من ذهب الرجال وألماس النساء نثرتهم ريح صرصر عاتية في ظلمة دهر قانط مكارمه كانت "السجن والتشريد والإعدام". كما قال شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري.
وليلة الجمعة الماضية، مد سبعة ملايين عراقي أصابعهم إلى أزرة الجوالات، طاروا فوق الموت الذي يترصد الدروب وصوتوا لشذى حسون.. فكيف استطاعت هذه الشابة دفع شعب بكامله لكي يخلع عن كاهله تعاساته ومصائبه؟.. كيف بحنجرتها آخت بين العرب والكرد والتركمان، بين النجف وعتباته وبغداد وحاراتها؟ كيف جعلت تلك العمائم التي اعتادت اللطم ولبس السواد تهرول للشوارع لتعانق مع كل لابس عقال أو دشداشة؟ كيف لم يعد للعراق إلا هوية واحدة انصهرت في العناق الجماعي والهزج والرقص في الشوارع والساحات كما في محفل العيد؟ كيف انهارت الأسوار عند صوتها، فبدت شذى كعنقاء الرماد ولدت من المحرقة، بيدها علم العراق مطرزا بدموع الفوز.. رفعته طرحة فوق هامها، لفته كوشاح العرس حول كتفيها، أدارته كثوب الزفاف حول قدها، حلقت به من فضاء البث إلى فضاء كل قلوب أهل العراق، منحتهم أجنحة فطاروا معها، منحتهم مناقير غضة فزقزقوا من قاع حنجرتها، وكأن طاحونة العنف والدم والعويل لم تحصد قبيل ساعات الأهل والخلان؟!
ماذا فعلت شذى حسون بأهل العراق ؟ وكيف؟ ولماذا؟
الأسئلة معراج الرؤيا.. وما حدث لأهل العراق بسبب شذى. ليس لأنها جان دارك بريطانيا ولا لأنها رابعة العدوية المصرية، ولا لأنها جميلة بوحيرد الجزائرية ولا سناء المحيدلي اللبنانية أو فريدة بوشهلا الفلسطينية، بل لأنها بمثابة قشة الغريق، رمز التطلع للحياة والإصرار عليها. رمز الحرية وحب الخلاص من ويل الجلادين وتجار الحروب والإرهاب.
ولو لم تكن شذى موجودة لاخترعتها وجدانات أهل العراق، لقطروها كثفوها، جموعها إلى أن تنبجس من أحلامهم وآمالهم فقد أثكلت كل بيوت العراق وتيتمت ولا بد من ابنة لبيوته!!
إذاً فالطائفية كذبة كبرى ومثلها المذهبية والعرقية؟
فهل نعيد ما قالته نشرات الأخبار من أن شذى وحدت ما فرقته السياسة؟
أم نذهب إلى غابر الحضارات لنصادق على مقولة الفيلسوف الصيني كونفشيوس: (لا يهمني من يضع للناس قوانينهم بقدر ما يهمني من يضع لهم أغانيهم)؟ أم نترك للعصر الحاضر حكمته ونذهب مع (جان كو كتو) في قوله موضحا ضرورة الفن: (الشعر ضرورة.. وآه لو أعرف لماذا؟!) لا أدري.. لكني أتشبث بالتأكيد على أن ما فعلته شذى حسون بأهل العراق هو أنها فقط كشفت عن اللب والجوهر الكامن في أعماقهم.. وهو أنهم عراقيون من هامات الرؤوس إلى أخماص الأقدام.. وأن كل هذا الليل زائل!!