قمة استعادة التفاؤل والثقة
جاء عقد قمة الرياض العربية في وقت كانت تسود الشارع العربي حالة من عدم المبالاة نتيجة لانعدام التفاؤل بالقمم العربية، فالتجارب السلبية السابقة ما زالت ماثلة في ذهن الشعوب العربية، وكان طبيعياً أن تأتي نسبة التفاؤل بهذه القمة أيضاً متدنية عطفاً على خيبات الأمل المتكررة من نتائج القمم السابقة وخصوصاً السنوات الأخيرة التي فشلت في معالجة الأزمات والقضايا العربية، فكل القمم السابقة عقدت في ظل حالات توتر شديد وأزمات مثلت تهديداً خطيراً للأمن القومي والوطني العربي دون أن تفعل شيئاً لمواجهتها غير إصدار بيانات لا يعيرها أحد اهتماماً، وغلبت عليها الخطابية الإنشائية لإبراء الذمة أكثر من جدية التصدي لمعالجة القضايا العربية الساخنة، وكانت فعلاً هذه حال قممنا العربية، وهي حالة قادتها إلى الفشل المتكرر نتيجة لعدم قدرتها على اتخاذ القرارات الصحيحة، أدت لفقدانها مصداقية ما تتخذه من قرارات، فالقمم العربية تحولت إلى ما يشبه حائط مبكى عربي للشكوى والتنديد ونعي العدالة الدولية فقط، وهذا ما سمح لتشريع أبواب الأمة العربية لتدخلات إقليمية وخارجية ودولية تجاوزت القرار العربي، كان من نتائجه الخطيرة تفاقم الأزمات كما نعانيها اليوم.
إلا أن قمة الرياض خالفت كل التوقعات السلبية، وأنهت أعمالها وقد سادت نسبة تفاؤل مرتفعة، فحتى الذين أدمنوا التشاؤم بالعمل العربي بإطاره القومي وبقدرة العرب على أخذ زمام المبادرة، فوجئوا بنوعية القرارات التي خرجت بها القمة، وبالأجواء المتعلقة وغير الانفعالية التي سادتها، وبما عكس حقيقة نجاح القمة، ولم يجدوا ما ينتقدونه في قراراتها إلا النوايا فقط، فقد أقر فريق المتشائمين ـ وعلى مضض ـ بنوعية وإيجابية القرارات، إلا أنهم وتحت تجذر التشاؤم لديهم شككوا بجدية القادة العرب على تنفيذ تلك القرارات من ناحية، ومن ناحية أخرى بالنوايا الخفية لبعض القرارات مثل قرار إصلاح التعليم العربي، بالقول إنه يهدف إلى وضع مناهج تعليمية وصفوها بالتطبيعية، بهدف تخريج أجيال عربية مرنة وقابلة للتسويات على حساب القضايا العربية!!
بصرف النظر عن دواعي التشاؤم والتشكيك، وجزء منه مبرر ومفهوم، إلا أنه لا يمكن الإنكار أن القمة حققت نجاحات كبيرة ومهمة، وقياس نجاحها يمكن سبره من ملمحين أساسيين يؤكدان عناصر النجاح العملي وليس اللفظي، الأول في بروز خطاب عربي سياسي جديد تميز بالمصارحة الإيجابية والجرأة على تحديد أسباب إخفاق العمل العربي، وتمثل ذلك في خطاب خادم الحرمين الشريفين في افتتاح القمة، وهي الكلمة التي حركت البحيرة العربية الراكدة، بما تضمنته من صراحة في وضع النقاط على الحروف على مسمع من القادة العرب ومرأى من الرأي العام العربي، فنوعية الخطاب نوعية غير مسبوقة في الطرح العربي بهذه الشفافية والاتزان والقوة في آن واحد، والذي أكدت مضامينه بشائر توجه جديد في عمل القمم العربية، وهو ما انعكس على لغة الخطاب العربي الشامل على لسان كل القادة العرب في الجلسة الختامية، والذي سادته روح التوافق حول القضايا العربية، وخلوه من لغة الانفعال والاستعراض كما كان يحدث في القمم السابقة، والملمح الثاني برز في نوعية وكمية القرارات المتخذة، فالخمسون قرارا التي صدرت من القمة والتي غطت القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتنموية، تمثل فعلا خطة طريق لانتشال الوضع العربي من حالة التردي، وترسم أطر إحياء العمل العربي القومي المشترك بنوعية متكاملة، بما جعل شعار القمة ـ وهو قمة التضامن العربي ـ حقيقة وليس مجرد أماني.
إن كنا نتفق أن القمة حققت الجانب الصعب وهو لملمة الموقف العربي، وصياغة عمل قومي متكامل، وإرساء مفهوم جديد للعمل العربي المشترك قائم على التوافق على جوهر القضايا، والمصارحة الإيجابية وليس التصادمية، إلا أن الجانب الأصعب بدأ بالفعل، فنجاح القمة الذي شهد به الجميع ما هو إلا البداية، وما سوف يؤكد ويرسخ هذا النجاح هو آلية التطبيق والتنفيذ والمتابعة، فلن يكون لهذه القرارات قيمة عملية إلا حينما يرى المواطن العربي نتائجها على أرض الواقع، لا أن تبقى مجمدة في ملفات الجامعة دون تفعيل، كما هو حال ما سبقها من قرارات، فنحن كأمة عربية لا نعاني من قلة قرارات بقدر ما نعاني انعدام تفعيلها والعمل بها.
ونحن نتحدث عن ملامح النجاح للقمة، ونرصد فاعليتها كما ظهرت في قراراتها، لا بد من التوقف مليا عند خطاب رئيس القمة خادم الحرمين الشريفين في جلسة الافتتاح، وبعيداً عن لغة الإشادة غير المطلوبة في تحليل فاعلية القمة، يمكن القول بأنه كان خطابا سياسيا محكما ودقيقا، في ابتعاده أولا عن الإنشائية غير المجدية، وثانيا في عناصره المشخصة لواقع وحال العمل العربي المشترك ومعوقاته وتوصيفه المباشر للأزمات التي تعصف بالأمة، فهذه الخطبة أحدثت حركة إيجابية في سطح وعمق القمة المتجمدين، لكونها جاءت صادمة ولكن بإيجابية كبيرة، فكانت مؤشرا بالغ الدلالة على أن هذه القمة سوف تكون مغايرة لمنهجية القمم السابقة، فعندما يفتتح رئيس القمة أعمالها بمثل هذه الكلمة وما حملته من تحديد وليس إشارات فقط لمعوقات العمل العربي على مدى ستين سنة تأخرنا فيها ولم نتقدم، وأهم ما تطرقت إليه بكل الصراحة هو تحميل القيادات العربية مسؤولية الفشل والإخفاق، وهذه قمة المسؤولية الحقيقية فلا بد أن نتفاءل.
على ضوء ذلك كله، وعلى بشائر النجاح الأولية للقمة، إلا أننا لا نريد الإفراط في التفاؤل ولا التفريط فيه أيضا، فما جرى أمامنا مجرد عنوان جذاب لا نحكم عليه إلا بعد قراءة تفاصيله فيما بعد، وما يزيد نسبة التفاؤل هو أن خادم الحرمين الشريفين بكل مصداقيته ونقاء عروبته سوف يتولى الشأن العربي على مدى عام كامل رئيسا للقمة العربية، ونجزم بأنه مثلما بدأها بقوة سوف ينهيها بفاعلية، فله منا جميعا الدعاء بأن يجرى علي يديه إشراقة عربية جديدة تضيء ظلام عربي دام طويلا.