رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


البوم والخراب من واشنطن إلى كابول مروراً ببغداد

[email protected]

لقد شكّل الإنسان علاقة مع الحيوانات المحيطة به، حيث يأكل بعضها ويستخدم جلود بعضها الآخر ويقتل المفترس منها ويستفيد من الأليف في المواصلات والزراعة، كما أنه توجد مجتمعات تعبدها بالإضافة إلى استخدامها الرمزي، ومثل هذه العلاقة ليست محصورة في مجتمع دون آخر بل في سائر المجتمعات، وقد تأملت في المجتمع الأمريكي فألفيت أن علاقته بالحيوانات قوية، فالكلاب والقطط أصبحت جزءاً من الأسرة الأمريكية تسكن في المنزل وتغذى بأفضل الغذاء ويُعتنى بها صحياً، أما الحمار فهو شعار الحزب الديموقراطي والفيل شعار الحزب الجمهوري وقد التزم مفهوم رعاة البقر بالشعب الأمريكي.
اعتاد العرب في الجاهلية التشاؤم من بعض الطيور كالبوم والغراب، خاصة عندما تقف على بيت أحدهم، حيث يعتقدون أن أمر سوء سيحدث كالموت أو الحدث المفجع أو فقدان المال والولد وما إلى ذلك من توقعات.
وقد نهى الإسلام عن التشاؤم بالطيور، وبيّن أن ما يحدث للإنسان من مصائب وكوارث لا علاقة لها البتة بالطيور، بل هي قدر مكتوب "لا عدوى ولا طيرة". لكن هذه الممارسات استمرت مع البعض نتيجة الجهل بأصول الدين والفقه فيه.
وقد تشكلت فكرة سيئة حول طائر البوم وما قد يجلبه من مصائب للإنسان، حتى أن هذه الصورة أصبحت جزءاً من الموروث الشعبي، حيث يتردد على ألسنة الناس المثل القائل "من صار دليله البوم وداه الخراب"، وقد اشتق هذا المثل من تجربة الناس ومعرفتهم بسلوك وتصرفات طائر البوم الذي يتخذ من الخرائب والبيوت القديمة سكناً وملاذاً له.
ويستخدم هذا المثل كمؤشر ودلالة على النتائج المتوقعة للفرد الذي يتخذ من أي فرد آخر قدوة له في تصرفاته وأفعاله وطريقة معالجته للأمور، خاصة إذا كان الفرد المقتدى به يفتقد الحكمة ومعروفا بهواجته وتصرفاته الرعناء التي كثيراً ما تترتب عليها المشكلات والمخاطر على الحياة والرزق والمستقبل.
ويستخدم هذا المثل للتحذير من الاقتداء بفاقدي الحكمة حتى لا تكون النتائج المترتبة وخيمة وغير سارة بل ومدمرة. تداعت لي صورة البوم الذي يلجأ للخرائب الموحشة المتهدمة المظلمة المقفرة من أي أثر للحياة السعيدة السارة وأنا أتابع بشكل يومي ومنذ العدوان الأمريكي على العراق منذ ما يقارب أربع سنوات ما ترتب عليه احتلال العراق وتدميره ليس مادياً فقط، بل نفسياً وثقافياً وعلمياً واجتماعياً.
ولكي نفهم العلاقة بين المثل والوضع في العراق لابد من معرفة الكيفية التي وصل الأمر بها إلى ما وصل إليه من سوء ودمار وخراب لا حدود له ولا يمكن تصوره في أي قاموس من قواميس العبث عبر مسيرة وتاريخ الإنسان على هذه الأرض.
القصة بدأت حين تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من استمالة بعض العراقيين ليكونوا في صفها وضد وطنهم يتآمرون عليه ويعطون العالم صورة غير صحيحة ومعلومات خاطئة بشأن أسلحة الدمار الشامل والقوة العسكرية للعراق، ومع أن أمريكا لا تحتاج لمثل هذه المبررات لشن عدوانها إلا أنها وجدت في هؤلاء مطية تركبها وتحقق من خلالهم مآربها وأهدافها سواء في العراق أو غيره من دول المنطقة.
ولقد حدث العدوان وحصل الاحتلال وتحول العراق إلى خرائب إذ لم تسلم المدارس ولا المستشفيات والمساجد وفقد الناس أبسط متطلبات الحياة من ماء وكهرباء وتعليم ورعاية صحية، وأصبح الخوف والقلق هما السمة الواضحة على كل العراقيين، بل إن البناء النفسي للإنسان العراقي تبدل، فبدلاً من التلاحم والتآخي والتراحم أطلت الطائفية برأسها وأصبحت سبباً في التعذيب والقتل، علماً بأنها لم تكن مثل هذه الممارسات موجودة في العهد السابق رغم ممارساته القاسية والمشينة.
وإذا كان العراق بهذا الوضع المزري الذي أعاده للوراء مئات السنين، قد أثبت أن التآمر مع العدو هو مدخل الشر الأساسي، فيحسن أن نعرف خصائص من قام بالتآمر مع العدو وأهدافهم وكيف اهتدوا لهذه الفكرة.
في الأساس هؤلاء عراقيون أي يحملون الجنسية العراقية، وهذا لا يعني إخلاصهم للعراق ولا سلامة تفكيرهم ولا صفاء نياتهم نحو وطنهم وأهله.
إن ما نشاهده من قتل وتعذيب، واختفاء، وضرب للمساجد وبشكل يومي يؤكد وبصورة قاطعة أن من وعدوا العراقيين بالحرية، والديمقراطية وسعة الرزق لم يكن لديهم من التفكير ورزانة العقل أكثر مما لدى البوم الذي لا يجد مكاناً أفضل من الخراب، وهذا ما حل بالعراق والعراقيين، إذ إن الشعب صدق بني جلدته حين تبنوا الطرح الأمريكي وأخذوا يروجون لهذه الأفكار حتى صدقهم البعض وسار في موكبهم، مما أوقع الجميع في ورطة لا يمكن الخلاص منها أو من آثارها.
إن روح التماسك والتلاحم والتراحم والتزاوج بين العراقيين بمختلف مشاربهم وعلى مدار قرون طويلة تعطي مثلاً رائعاً على الصفاء والتواد الذي غرس في النفوس وتناقلته الأجيال وخلال الحكم السابق رغم فظاعته، لكن هذا الوضع لم يعد قائماً بعد أن جاء الاحتلال واستبدل هذه المفاهيم بمفاهيم التقسيم والطائفية والفيدرالية والكنتونات المذهبية والعرقية، حتى تحول العراق مصدر أخبار القتل والتفجير بدل التسامح والإخاء والعيش المشترك الذي كان سائداً فيما مضى.
إن من تسبب في هذا الوضع أو أسهم فيه يعتبر مسؤولاً مباشراً ويحق للعراقيين محاكمته ومطالبته على هذا الصنيع، فالعراق ليس ملكاً لفئة دون أخرى حتى يوصلوه لهذه المرحلة المزرية.
وإذا كان البوم أحدث هذه الآثار الجسيمة في العراق، فإنه سبق وأن دمر أفغانستان وأفقر شعبها زيادة على فقره وبؤسه، وها هو يطالب دول حلف الأطلسي كي تزيد من قواتها وعتادها في أفغانستان وتتحرك باتجاه الجنوب لمواجهة قوات طالبان التي أصبحت تضرب ضرباً موجعاً في القوات الأجنبية.
ما زلت أتذكر صورة ذلك الأمريكي الذي فقد ابنته المسافرة على الطائرة التي تم إسقاطها على بنسلفانيا من قبل السلطات الأمريكية، صورة ذلك الأب وهو يجول في أفغانستان ويقف على الأطلال والخراب الذي أحدثته الطائرات الأمريكية في بيوت الأفغان الآمنين العزل المساكين، كان ينظر لهذه البيوت وبقايا الأثاث المتواضع في الأساس ويتساءل لماذا نفعل بهؤلاء الناس مثل هذه الأفاعيل؟! إن مثل هذا التساؤل الذي طرحه ذلك الوالد المكلوم على ابنته يمثل صرخة في وجه الظلم والطغيان والجبروت الذي حول كلاً من أفغانستان والعراق إلى خراب ودمار ليس له مثيل.
إن تعبيرات وجه ذلك الأب عبرت وبشكل واضح عن عودة العقل واستيقاظ الضمير الذي عاد للذات يحاسبها على صنيعها ولا يلوم الآخرين على ردود أفعالهم، بل إن لسان حاله كان يقول البادئ أظلم، ومع أن البوم قد وضع خططه لإحداث الخراب والدمار في دول أخرى مجاورة للعراق متذرعاً بحجج ومبررات يسوقها بين فينة وأخرى ويخرجها من أدراجها، معتبراً إياها ملفات إدانة تبرر له فعل ما يريد، إلا أنه فوجئ بالمقاومة الشرسة التي أرغمته على إعادة حساباته وترتيب أوراقه من جديد، بل وإعادة ترتيب بيته من جديد ليس تغييراً في فلسفته وموقفه من الآخرين وليس صحوة ضمير، بل تكتيك يتجاوز به الموقف المخزي والمكلف مادياً وبشرياً في العراق وأفغانستان.
إن ما يشاهده المرء على شاشات التلفزيون من جثث ملقاة على الأرض ومن تفجيرات وبيوت مهدمة ونساء ورجال وأطفال يبكون إنما يمثل مأساة تستدعي التأمل والتساؤل عن الوجهة التي قد يتوجه نحوها البوم مستقبلاً ليدمرها ويحولها إلى خراب كما فعل في العراق، كما أن الأمر يستدعي التساؤل عشرات المرات، هل يجد البوم المهاجر سرباً من البوم المحلي يسير خلفه ويحركه كما يشاء وفي أي اتجاه كما فعل في العراق وأفغانستان حين وجد البوم الأجنبي بوماً محلياً يساعده في فعله؟! أرجو ألا يكون ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي