المحقق والمحاور
هناك اختلاف جوهري بين مهمة المحقق ومهمة المحاور في برنامج إعلامي، فالأول يفترض فيه حماية السلم الاجتماعي مما قد يتهدده من مخاطر الجانحين والخارجين على القانون ومن يحيكون الدسائس أو يتربصون بغيرهم الدوائر، وبالتالي فعناصر عدم الثقة والشك والريبة هي المسيطرة على مجرى الحديث، تقوده في دروب غير ودية، للكلمات وخز الإبر ولسع الجمر وثقل الكابوس.
فيما يفترض في الثاني أن يكون بالدرجة الأولى على دراية ومعرفة بطبيعة عمل أو إنتاج هذه الشخصية التي سيجري حوارا معها، أي قارئا لإنتاجه الفكري ومطلعا عليه وقام بالتحضير له أو محيطا سابرا لنوعية العمل المميز الذي يقوم به أو المنصب الذي يشغله.
هذا من الناحية المنهجية، أما من الناحية الأخلاقية فيفترض في المحاور الإعلامي أن يحل ضيفه في موضع الاحترام والتقدير، يعامله كشخصية اعتبارية لها قيمتها المعنوية ووزنها النوعي ومكانتها الاجتماعية وبالتالي فهو إما أستاذ نتتلمذ عليه أو مبدع أو مثقف أو ذو مهارة نفيد من معارفهم أو نستمتع بإبداعاتهم.
يتعامل بعض المحاورين الإعلاميين في فضائياتنا العربية مع ضيوفهم وكأنهم متهمين بقضايا جنائية، يخيل لك أنهم يأتون بهم للاستديو مصفدين بالأغلال، تراهم يحاصرونهم بجلافة كما لو أن المحاور منهم يقوم بدور محقق شرس!!
تجد المحاور منذ اللحظة الأولى للبرنامج عدائيا استفزازيا لديه قائمة من التهم الارتجالية تشكل ما يشبه "ملف القضية" جمعت من نثار حديث المجالس أو عبارات مخلوعة عن سياقها في مقالة أو كتاب، بعضها دس رخيص وبعضها رشح حسد وغيرة أو ضغينة.. ينهال بها المحاور على رأس الضيف عامدا متعمدا نافشا ريشا طاووسيا مستعرضا أمام "ربعه" من هواة تلطيخ سمعة المتميزين ومن غلاة أعداء النجاح ولسان حاله يقول: انظروا.. كيف "أمرمطه" أو "أمسح به البلاط" كما يقال!!
تلك شوارعية نزقة متخفية في ديكور وبهرج الإخراج والإعداد، تترك الضيف المسكين في ورطة من أمره، في حرج الظهور أمام الكاميرا، يلهث لاتقاء حجارة التهم التي يقذفه بها حضرة المحاور الصنديد بحجة أن "الجمهور عايز كدة"، بينما في الواقع لا يريد الجمهور أن يتم الاستخفاف به والضحك عليه أو أن يستغل للتصفيق على بلجة فضائية وإنما يريد أن يتثقف، أن يتعلم، أن يستفيد، أن يتواصل مع أفكار الآخرين.
فما الذي يفيده الناس من محاور جاء بضيفه ليشهدهم على جلده أمامهم بحجة أن هذه هي المهنية العالية حيث لا صوت يعلو على صوته فغالبا ما يستأثر المحاور بنحو 70 في المائة من وقت البرنامج بين استعراض لعنترياته وبين صفاقة مقاطعاته للضيف لكي يثبت أن ما يحيط بهذه الشخصية من وهج ومجد سواء كان مسؤولا أو أكاديميا أو كاتبا أو باحثا أو مبدعا أو ناشطا في مجال من المجالات الاجتماعية، مجرد وهج فجر كاذب ومجد زائف..! أو هكذا هي الرسالة التي يبدو أن حضرة المحاور قد جند نفسه ليزفها للناس.
ذلكم امتهان وجهل وجهالة لجلال الفكر والمواقف ولشرف العمل والمكانة.. وإني لأتساءل: كيف يرضى أولئك الجادون الناجحون بأن يضعوا أنفسهم تحت مقصلة هؤلاء المحاورين الذين لا تشي كلماتهم أثناء اللقاء، إلا بالضحالة ولا تتمحور أهدافهم إلا حول إهانة الضيف وتقزيم قامته وتسقط عثراته أو اختلاقها بدافع من نرجسية مريضة وتضخم للذات أو بإيحاء من أولئك الذين لا يعملون ويسوؤهم أن يعمل الآخرون!!
لكم تمنيت وأنا أشاهد بعض تلك البرامج الحوارية "الانكشارية" أن تصيب مقدميها عدوى مقدمي برامج شهيرة كبرنامج "لاري كنج" الذي يستقبل ضيفه بحفاوة طبيعية وببساطة وبدماثة كما لو كان "معزوما" عنده في مجلسه، نراه بلباقة يفتح شهيته للحديث، كأنهما على مقعد في الحديقة، فإذا بالضيف يقدم خلاصة عمره وخبرته كأسا دهاقا للمشاهدين.. وقل مثل ذلك في برنامج "أوبرا" أو "دكتور فيل" علما أن أولئك أساطين ثقافة وأباطرة ثراء لكنك تراهم وادعين زاجلين كاليمام، لا يخفون خلف كلماتهم جزامات الجستابو وخوذات "الكي جي بي" البائد.
عقلية المحقق محكومة بالحذر والتحفز والمباغتة والضغط وتلك إملاءات وظيفته، لكن عقلية مقدم البرنامج الحواري يفترض فيها أن تكون نسيما عليلا منعشا يفتح صدر الضيف للبوح بما لديه، متدفقا على سجيته كما هو بلسانه ومن قلبه وعقله ليس إلا.. وتلك هي "الشطارة" الرائعة للمحاور الخلوق التي تستحق منا رفع العقال لها والتصفيق، أما ما دون ذلك فوبال لن يصفق له إلا العار والخجل!!