الكلـب والعجـوز

"أهون ألف مرة
أن تدخلوا الفيل بثقب إبرة
وأن تصيدوا السمك المشوي في المجرة
من أن تميتوا باضطهادكم وميض فكرة
عشرون ألف مستحيل
في اللد والرملة والجليل"
كان هذا هو رد وجدان الشعب الفلسطيني بلسان الشاعر الراحل توفيق زياد قبل أربعة عقود من الزمان، على الطغيان الصهيوني لسحق واقتلاع جذور عرب فلسطين من أراضيهم.. كان ردا على استحالة أن يبقى الصهاينة مستأثرين بأرض ليست لهم وأنهم إن ثبت لهم أنهم ليسوا على الحرب قادرين فإنهم كذلك ما زالوا على السلام ليسوا بقادرين أيضا لأنهم في الأساس مسكونون بكوابيس اللص مأزومون قلقون خائفون حتى من عجوز عزلاء بائسة مسكينة وحيدة في بيتها (الواقعة التي فضحتها كاميرا جوّال).. فبقاؤها في حد ذاته يشكل استفزازا لا يحتمل وما من سبيل للجم أخطبوط الذعر الضارب في وجدان أولئك الجنود الإسرائيليين الحثالة سوى تسليط رعب شاذ آخر عليها يتطابق مع شذوذ نفوسهم الملتاثة بالحقد والكراهية، وإلا فأي عقل بشري سوي يقبل أن تترك سيدة مسنة عزلاء لا حول لها ولا قوة لتنهشها أنياب كلب مسعور محاط بالتصفيق والصفير من قبل أولئك السفلة؟!
لا أريد أن أستثني .. فلو كان الفاعلون منا نحن العرب، من أهل فلسطين أو من أي قرية نائية في بلداننا الكابية ولو كان الضحية مدنيا من إسرائيل أو من أي بقعة كانت، فالاحتجاج على الجريمة هو ذاته ومطلب التصدي لهذا الشذوذ الضاري هو الموقف الذي لا مناص عنه.
أما والفاعلون صهاينة، تلامذة عصابات الهجانا وشتيرن وجزارون من نوع بيجن وشامير وشارون، زمرة من دولة ولدت في التباس تضعضع الكرامة العربية والتواطؤات في دول الغرب بالأمس، من دولة تغص سجونها بأهل الأرض الحقيقيين المحرومين من أبسط حقوقهم، فلا سبيل لأن نصدق أن أولئك الجنود الصهاينة من بني الإنسان.. بل إن تلك اللوثة النيرونية تعيد إلى الأذهان مقولة "ستزول إسرائيل آجلا أو عاجلا".. التي قالها أكثر من مفكر ونقولها نحن، لا رهانا على المقولات نفسها، بل انطلاقا من مأزق هذا التنافر مع الطبيعة السوية لبني البشر، المتمثل في أولئك الجنود في تنافرهم مع المكان الذي يزداد تنافره معهم ببقائهم فيه, فلا هم يملكون إمكانية التصالح مع تاريخه ولا هم يملكون القدرة على الخلاص من ورطة أكذوبة تصور أن هذه أرض الميعاد وأنهم سلالة الشعب المختار.
ليست الحالة الصهيونية فصام في العقلية تلد هذا المسلسل الدموي من الطغيان والاحتلال فحسب, وإنما تتعداها إلى أنها حالة فصام في ثياب جنون العظمة جعلها تنحاز في عنصرية عمياء لنفسها في إقصاء لكل العالم، فها هي منذ وجودها إلى اليوم تحاول تدثير نفسها بالأباطيل عبر "تجيير" كل منجزات البشرية في العلوم والتقنية والابتكار والفكر لعقلها الإسرائيلي، فكل عالم، كل مفكر، كل مخترع، كل مكتشف أو مشهور تساق إليه العرقية اليهودية أو يعود فضل تميزه لرعاية يهودية، ومن لم توفق الصهيونية إلى تلفيق عرقيتها له فالمحاولات لا تألو جهدا في التعتيم عليه أو حتى تحطيمه!!
والكلب المسعور الذي تُرك ينهش العجوز والجنود الذين كانوا يصفرون ويصفقون وغيرهم ممن يطيحون بدم بارد برؤوس الأطفال برصاص غادر، وآلاف نقاط التفتيش والمراكز والحواجز والسجون المزروعة في جسد الشعب الفلسطيني ما هي إلا أعراض مرض الفصام الصهيوني الناجم عن اغتصاب أرض تصرخ ضدهم ليل نهار متنافرة معهم، لأنهم ظلوا متنافرين فيها مع أنفسهم بإصرارهم على أنهم المختارون وغيرهم الأغيار!!
هل قلت جديدا؟ لا.. فحتى الأطفال العرب من نجد إلى تطوان يعرفون ذلك والعالم الشريف كله يعرفه.. فالقادم للمكان ما لم يتصالح مع المكان ومع أهل هذا المكان ويصبح متكاملا معهم فالمكان سوف يلفظه بالتنافر معه.. هكذا فعلت بنا أرض الأندلس بالأمس، فرغم سبعة قرون من البقاء فيها عدنا من حيث أتينا لأننا لم نحسن وفادة المكان، تنافرنا معه ومع أهله فأصبحنا بعدئذ "بالنسبة للإسبان "عابرين في كلام عابر"، الصرخة التي زعقها الشاعر محمود درويش في وجوه الصهاينة.. أما متى؟ فتلك كلمة التاريخ، وقد يحدث ما يشبه المعجزة.. فيشفى الإسرائيليون من عنصريتهم العمياء ويقبلون بالتعايش معنا, تماما مثلما عاش أجدادهم بيننا دون أن يمسهم أو يمسنا سوء.. إلا أن هذا رهن بالتخلي عن عقلية إطلاق كلب مسعور على عجوز عزلاء.. العار الذي تتخبط في دركه الأسفل دولة إسرائيل على مرمى دمعة حرى وصرخة بائسة من تلك العجوز وأمام عالم يبدو مكتوف اليدين، يجدف فقط في عسى ولعل!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي