رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مواسم غازي القصيبي (2من2)

[email protected]

يبدو أن السنوات التي أمضاها غازي القصيبي سفيراً في البحرين، كانت من أخصب سنوات عمره، فخلالها قضى أغلب نهاراته في مكتبته وأمضى أماسيه في مُجالسة رفاق الدرب الطويل، كالشيراوي ورفيع. ويبدو أن مشروع "الموسم الروائي" الذي دشّنه في مشهدنا الثقافي مطلع التسعينيات، قد ولدت فكرته وتمخضت في تلك الأماسي، بل ربما بُدء بالمشروع ونُقل مخطوطاً إلى لندن، خاصةً باكورته "شقة الحرية". والقصيبي يتحمل مسوؤلية "الانتفاضة" الروائية، التي نعيشها حالياً، فهو الذي أشرع الباب الروائي، بعد أن كان موارباً، فتقاطر على الحلبة روائيون وروائيات، تعرف منهم وتُنكر! ولعل مما يلحظه المتابع للمشهد الأدبي هو خمود هذه "الانتفاضة" في عِقدَي الحداثة الأدبية. فالحداثيون كانوا بها أولى، لينشروا من خلالها طلاسمهم ويضمّنوها ألغامهم! غير أنهم انصرفوا إلى قول الشعر الذي لايفهم والنثر الذي لايُقرأ! ولهذه قصة أخرى.
من خلال متابعتي مسيرة القصيبي الإبداعية، كنت كثيراً ما أتساءل عن سر الموت، الذي يحاصره ويحيط به في كل آنٍ وحين؟ وعن مواسم الأحزان التي تهطل عليه وتظلله، فطوال رحلته غاب عن ناظريه ورحل أعزاء وعزيزات، يقرب عددهم من العشرين، وهم ليسوا من آل القصيبي فحسب، بل من آل عبد الرحمن القصيبي. وللقارئ أن يتصور حجم المعاناة والمأساة التي عايشها وكابدها غازي وهو يرى انفراط العِقد بين يديه، حتى أنه في تشييع جثمان أخيه فهد العام الفائت، التفتْ في المقبرة إلى أخيه إبراهيم يسأله عن الفراق المقبل: من الذي سيتقدم؟!!
كانت أول قصيدة في رثاء آل القصيبي، أقرأها وأحفظها، مرثية غازي في أخيه نبيل، الذي قضى في بيروت وعمره خمس وثلاثون ربيعاً، فنقلت الأحزان غازياً من اليمن إلى بيروت "الشوهاء" حينذاك، ليستمر "الحزن البيروتي" مواسمَ متتالية، ليدفن في مقبرة الشهداء في بيروت جمعاً من خاصته، لتتحول مقبرة الشهداء إلى مقبرة "القصابا"!
رغم هذا الخيط من الحزن الطويل، الذي اعتاده القصيبي وخاض غماره، إلا أنّ ثمّة مواسم حزن توجع قلب كلّ من تابع مسيرته واقتفى أخبارها، من ذلك رحيل الضابط الشاب البهي مازن المصطفى، الذي دخل على عمّه ذات يوم مزهواً بالنجوم المتلألئة على كتفيه، فلم يعرفه عمّه، الذي احتضنه وقال: "أنتم أيها الشباب وفي غفلةٍ من الكبار تكبرون!" وأقولُ: صدقتَ، خاصةً إذا كان الكبار مشغولين في وضع أُسس البناء والتنمية وفي مقارعة الحداثيين والإسلاميين! ومن الشاب مصطفى إلى الشابة صبا بنت عادل، التي فاجأت عمها بالرحيل في سن العشرين، فتساءل في مطلع قصيدته: أفي العشرين يا أبهى الصبايا؟!! متمنياً من فرط لوعته لو أمتد بها العُمر طويلاً! لكن ما الذي يفيد؟ وقد تمنيتَ قبلُ أن يمتد العُمر بـ"الست" سعاد، فكان لك ما أردت، ثم ماتت!
في صيف العام الفائت، وارى غازي أخويْن وأخت في غضون أيام متتالية، كانت بحق موجعة ومؤلمة، فما أن يحطّ في الرياض حتى يعبر الدهناء ثانيةً إلى البحرين، مثقلاً بالهموم والأحزان وجراحات السنين والذكريات المورقة الشجية، التي تتداعى في ذاكرة الشيخ الذي بلغ لتوّه الخامسة والستين!
مع مواراة الراحل الأخير، الشيخ فهد، رحمه الله، كنتُ في البحرين وفي بهو الفندق وجدتُ الأستاذ عثمان العمير، الذي عاد لتوّه من مجلس العزاء، فرجوته أن يذهب بي إلى هناك! وفي الطريق من الفندق إلى بستان الشيخ فهد، كان حديثنا عن غازي، المثقف والأديب وعن مواسم الحزن التي تطوّقه. قلتُ لعثمان: إن على غازي مسؤولية ثقافية وتاريخية يتحملها وحده، تساءل باستغراب وقال: ماهي؟! قلتُ: مسؤولية كتابة تاريخ والده الكبير عبدالرحمن القصيبي! فكّر عثمان قليلاً ثم قال: "نعم! تلك حقيقة. وسأتحدث مع غازي عنها بعد أن يتجاوز حزنه إلى مواسم الفرح الغامر".
أرجو أن يكون عثمان قد بلّغ الرسالة، وألا تكون قد تاهت في أحد المطارات! وأسأل الله أن يمنح غازياً فسحةً في العمر والصحة ليواصل إبداعاته وأن يتصدى لهذه المهمة الوطنية، كي يطلع الجيل الناهض من أبناء الخليج على سيرة الرجل الكبير، خاصة الأحفاد: فهد وسلمان وغازي و"تلوش" وسلمى العربية وكل الزهور! والحديث عن غازي يطول ويطول!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي