هذا الرجل ـ المتحف
هناك نوع من الرجال ينذر نفسه لمهمة نادرة دقيقة صعبة، يقوده إليها حدسه أو هوايته أو شغفه بما له علاقة بالوطن. والأستاذ الصديق محمد القويعي واحد من هذا النوع، أوقف سنوات عمره وزهرة شبابه جامعا حاذقا لتراث هذا الوطن العزيز.
قرابة نصف قرن ركب فيها هذا الرجل قدميه، تعلق بالحافلات، ركب الدواب، وطاف وجال وسافر، وعمل مساحا، وكان دائما مولعا عاشقا لكل ما أبدعته قريحة عربه وعربانه، أبناء بواديه، مدنه، قراه، وهجره وسواعدهم. فجمع متحفا مذهلا من كل الفنون والأدوات والوسائل التي استعان بها أهلنا لتدبير شؤون حياتهم المختلفة في أزمنة الشُح وحين كانت فيها الجزيرة العربية على موعد مع نهضة المؤسس العملاق الملك عبد العزيز ـ رحمة الله عليه.
لقد أفضل عليّ الأستاذ محمد القويعي بزيارة متحفه، ولقد هالني الكم النفيس النادر المتنوع من آثارنا وتحفنا الشعبية التي لا تكاد تغادر نشاطا من أنشطة حياة أهلنا من الساحل إلى الساحل إلا وله في هذا المتحف سجل حي باهر: مخطوطات ورسائل من الملك عبد العزيز وإليه، عتاد الحرب وعدتها وذخيرتها. أدوات التعليم ووسائله، أدوات الزراعة والحصاد، عدة الصناعة والحدادة، الملابس والأزياء، الحلي والمجوهرات، أدوات الزينة والحلاقة والحجامة والختان، الخزائن، الشنط، الأقفاص، الحصائر، ألعاب الأطفال والكبار، الأبواب والشبابيك، المنسوجات والفرش والسجاجيد، الصور النادرة للشخصيات التاريخية والأماكن والبيوت والشوارع في بدايات النهضة السعودية، ومقتنيات كثر متنوعة، كنز مدهش يملأ غرفا وأرففا تدبر أمرها هذا الرجل بالميسور، لكنها غرف ينخرها الغبار والهواء وإذا ما تركت هكذا فسوف تكون عرضة للبلى والتلف فيما هي ثروة وطنية مهمة جدا جدا حتى وإن كانت من ممتلكات هذا الرجل الخاصة.
لقد دفعت الغيرة الوطنية الأستاذ القويعي إلى رفض كل عروض الشراء المغرية، سمعته يحدثني عنها كمن يذود عن فلذات كبده، وكان ممتنا أشد الامتنان لمن زاروه أو كتبوا عنه وفيهم الشيخان حمد الجاسر وعبد الله بن خميس ـ رحمهما الله ـ ومعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر والمرحوم المربي الشيخ عثمان الصالح والأستاذ الكاتب يوسف الكويليت والدكتور عبد الله العسكر، وزوار أجانب وصحف ومجلات وأقلام عديدة آخرها المقالة الدافئة الجميلة التي كتبها عنه الدكتور عبد الله العسكر في جريدة "الرياض".
وعرفه العالم العربي وغير العربي خير ممثل لهذا البلد في هذا المجال، عرض نماذج من مقتنياته في عديد من البلدان واحتفت به منظمة اليونسكو ومنحته تقديرها، شارك في عديد من الفعاليات الثقافية والوطنية والمعارض عن مختلف الأنشطة، وكثير من الحرف وكان أبرزها مشاركته في مئوية الملك عبد العزيز، وأثرى علاوة على مشاركاته المكتبة السعودية بموسوعته "تراث الأجداد ـ خمسة أجزاء" مع أطلسها الذي يعمل على إتمامه، وأفادت منه دارة الملك عبد العزيز ومكتبة الملك عبد العزيز وجامعة الملك سعود ووزعت نماذج من مقتنياته على مدارس التعليم العام وخرجت عن عمله وموسوعته عدة رسائل ماجستير ودكتوراه.
هذا الرجل ـ المتحف، الودود، الدمث، الورع ممتن تأسره كلمة الشكر مسكون بعرفان الجميل، يكاد صوته يتهدج عاطفة وتخضل عيناه بالدمع حين يذكر بجلال التقدير جميل من ساندوه معنويا أو ماديا وفي صدارتهم صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، الذي قال إنه غمره بأياديه البيضاء رعاية ودعما وتشجيعا فطبع له موسوعته (تراث الأجداد) وظل يحثه على إنجاز الجزء المتبقي منها لطباعته أيضا على نفقة سموه الخاصة.
ولأني عهدت سموه الكريم، كما عهده الجميع، رجلا وقف عمره على حراسة وصيانة وحفظ تاريخ وتراث هذا الوطن ومآثر رجاله وأهله وثقافته، ولأن سموه أسدى وما زال يسدي خدمات جليلة لرجال العلم والفكر والثقافة والإعلام ومنهم الأستاذ محمد القويعي، فإني أناشد سموه الكريم النظر في أمر هذا (الرجل المتحف) فما عمله وما لديه يتجاوز شخصه إلى كونه ثروة ثقافية وطنية نفيسة تمثل أرشيفا حيا نابضا لمفردات التاريخ الأثري التالد الخالد لهذا الوطن المبارك.. خصوصا أن سموه الكريم المبادر إلى ريادات نوعية كبرى منها: معرض المملكة بين الأمس واليوم ومؤتمر تاريخ الملك عبد العزيز والمئوية وريادات عديدة، وقد يرى سموه أهمية ضم مقتنيات متحف هذا الرجل إلى ملكية الدولة وعرضها في المتحف الوطني وتعويضه ماديا عنها أو منحه قطعة أرض يقام عليها متحف خاص به يقوم الأستاذ محمد القويعي نفسه على إدارته والإشراف عليه ما مد الله في عمره مكلفا أيضا من قبل الدولة، أو ما قد يراه سموه أجدى، فالأمر منه وإليه.. والخشية أن تتسرب هذه الآثار والتحف النادرة بالبيع أو أن يطولها التلف وهي مما يصعب أو يستحيل تعويضه.. أناشد سموه الكريم شمول هذه الذخيرة التراثية النفيسة بعنايته الخاصة مثلما شمل صاحبها وشجعه وغيره كثيرين، والله أسأل دوام التوفيق والسداد.