العمالة الوافدة.. تجارة واحتكار
إذا دلفت لمحل فيما يسمى بالأسواق الشعبية التي انتشرت في معظم مدننا انتشارا واسعا، بغرض شراء سلعة ما كالستائر أو الأثاث أو الأجهزة الكهربائية أو غيرها من السلع، فلا تظن لأول وهلة أن العامل الوافد الذي يستقبلك بهزة رأس بندولية معتادة مثلا هو مجرد عامل مستأجر للبيع في هذا المحل، فأكبر الظن والأقرب للتأكيد أنه هو صاحب المحل الحقيقي. أما المواطن المسجل المحل باسمه في تلك الورقة (التصريح) المعلقة في صدر المكان بصورته البهية، فعلاقته الحقيقية بالمحل والعامل لا تتعدى المرور آخر الشهر حين يأتي لتسلم المبلغ المقطوع الذي اتفق عليه مع ذلك العامل الذي يدير المحل يتاجر فيه باسم المواطن الذي تحول إلى أجير عنده، فالشائع الآن أن المواطن السعودي حين يقوم باستخراج تصريح لممارسة العمل التجاري ويفتتح المحل، يبحث عمن يشغله من العمالة الوافدة بحجة أنه غير متفرغ ولا يستطيع العمل فيه طوال اليوم، ولهذا يقوم بتأجيره لعامل وافد بمقابل مادي حتى لا يدخل في حسابات لا يستطيع متابعتها وليضمن دخلا ثابتا شهريا.
هذه الصورة ما هي إلا مشهد صغير في صورة أكبر لما يجري في أسواقنا من سيطرة جنسيات وافدة على قطاعات من سوقنا وخاصة الشعبية منها تحت غطاء تأجير المحلات لهم من قبل السعوديين، والأخطر من ذلك والأكثر سلبية هو أن هذه السيطرة تحولت إلى احتكار واضح ومضر بالحركة التجارية، ولوضع هذه العمالة الوافدة التي استقدمت للعمل فإذا بها تتحول إلى ممارسة التجارة في مخالفة نظامية يسهم فيها المواطن الذي يؤجرها اسمه وتصريحه، وهو ما يمكن ملاحظته ورؤيته من خلال تفرد أو تخصص هذه الجنسية أو تلك في هذا النشاط أو ذاك، والأمر بات مكشوفا وعلى عينك يا تاجر، فالبنغالية مثلا أحكموا سيطرتهم على سوق مثل سوق الستائر واحتكروه لحسابهم، وإخوتنا السوريون كمثل آخر باتوا هم الوحيدون تقريبا في سوق الرخام والسيراميك، وقيسوا على ذلك جنسيات أخرى كل منها احتكر جانبا من جوانب السوق، والأدهى والأمر أن هذا الاحتكار قاد هذه الجنسيات التي وجدت بقوة وسطوة في السوق لمحاربة أي مواطن يريد دخول سوقهم لكونهم أحكموا سيطرتهم عليها ابتداء من البائع في المحل إلى بائع الجملة ليبقوا هم وحدهم في السوق يجنون منها أرباحا فلكية.
تحول العمالة الوافدة المستقدمة كعمالة فقط إلى ممارسة العمل التجاري الكامل متخفين خلف سعوديين، يتحمل مسؤوليته المواطن بالدرجة الأولى الذي قبل بأن يترك السوق لهم يجنون منها دخولا مهولة ويكفي هو بالفتات، وهذا واضح في قيمة التحويلات السنوية التي تبلغ 60 مليار ريال سنويا، وهذه المبالغ الكبيرة المستنزفة من اقتصادنا كان يمكن أن يصب معظمها في جيب المواطن الذي سيقوم بتدويرها في بلده وليس كما تفعل هذه العمالة بتحويل كل مدخراتها إلى بلدانها، وهذا المبلغ يعكس حجم ممارسة العمالة الوافدة للتجارة على حساب المواطن وخارج أطر النظام الذي لا يسمح لعامل وافد أن يعمل في التجارة وقد استقدم كعامل عادي، فليس من المصدق بأن عشرات المليارات المحولة تمثل فقط رواتب هذه العمالة البسيطة، بل تعكس ممارستها أعمالا تجارية غير تلك التي استقدموا من أجلها، هي التي تدر عليهم كل هذه الدخول الكبيرة، التي لا يمكن جنيها إلا من تجارة ومتاجرة من خلف ظهر النظام.
انغماس العمالة الوافدة، وجميعها جاءت بدون رأس مال يمكن استثمارها في بلدنا أو بخبرات ومؤهلات، في السوق والتجارة عن طريق التستر المسؤول عنه المواطن كما أسلفنا، له سلبيات عديدة، منها وأولاها ممارسة هذه العمالة الغش التجاري ورداءة المنتج بما فيها المواد الغذائية وهي الأخطر بهدف جني أكبر قدر من الأرباح وبأسرع وقت، وهذا ما تكشف عنه الصحف يوميا تقريبا من القبض على سلع مغشوشة تروجها عمالة وافدة خفية وبواجهة تصريح باسم مواطن غافل أو متراخ أو مجرد (فهلوة) منها في سوق مشرعة أبوابها كما نرى عند المساجد عقب صلوات الجمع مثلا، ومنها أيضا أن هذه العمالة وحتى تضمن سرية وإخفاء تجارتها كونت سلسلة احتكارية سيطرت من خلالها على جانب من جوانب السوق، كما في حالة العمالة البنغالية وغيرها من جنسيات، كل منها فرض هيمنته على سوق معين بالكامل، وهذا الاحتكار الذي تستخدمه هذه العمالة قادها لشن حرب على أي (دخيل) سعودي يريد المتاجرة في مجالها الذي هيمنت عليه وإخراجه منه بطرق متعددة وحرمانه من سوق رابحة هو أولى به منها، من هذه السلبيات هي أن هذه العمالة التي تمارس التجارة تستنزف خيرات بلدنا من دون مردود اقتصادي من خلال تحويل كل ما تكسبه إلى بلدانها لاستثمارها فيها، وكل هذه السلبيات هي نتيجة لسلبية المواطن أولا وانعدام الرقابة والأنظمة الدقيقة التي تحمي مصلحة الوطن. المسؤولية الأخرى في ذلك تقع على الجهات المسؤولة من وزارتي التجارة والعمل والأمانات والبلديات التي يقع على كواهلها عدم ترك هذه العمالة تعبث بسوقنا من خلال آلية ضبط وانضباط على العمل التجاري في أسواقنا، خاصة الأسواق الشعبية التي باتت مرتعا لهذه العمالة، فكل من يشاهد همة ونشاط هذه العمالة التجاري يدرك أنها ليست مجرد أجيرة، بل صاحبة مصلحة أولى.