الحروب وإعادة الإعمار
بين فينة وأخرى نسمع دعوة من هنا أو هناك لإعادة إعمار هذا البلد أو ذاك أو اجتماعا عقد في هذه العاصمة أو تلك, وذلك بغرض إعمار أفغانستان أو العراق أو لبنان, وهي دول يعلم الجميع أنها ابتليت بنكبات سياسية وحروب شنت عليها من أطراف خارجية وأحياناً اقتتال داخلي. ولا شك أن مثل هذه الدعوات ومثل هذه الاجتماعات أمر حميد, فهي تجسد خاصية التلاحم والتعاضد بين البشر ومساعدة بعضهم البعض الآخر. وحين يحدث مثل هذا الفعل بين الدول العربية والإسلامية يكون أمراً محموداً فهو يتسق مع الحديث النبوي "المؤمنون في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
وحسبي أن الموضوع لا يؤيد أو يرفض بهذه الصورة المبسطة أو على هذه الشاكلة, إذ لا بد من أخذ مجموعة أمور عند تناوله, وأول هذه الأمور هو كيف حدثت النكبة في هذا البلد أو ذاك وكيف دمر ومن المتسبب في الدمار الذي حل به؟ إن كان الدمار بفعل حوادث طبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات كما حدث في باكستان أو كما في لويزيانا فالنجدة وإعادة إعمار ما تدمر أمر محمود ومطلوب لأن في هذا تطبيبا للجراح وعونا على العودة للحياة الطبيعية, لكن أوضاعاً مثل أفغانستان والعراق ولبنان التي تكرر طرح إعادة إعمارها وعقدت لذلك مؤتمرات دولية آخرها مؤتمر باريس 3 لإعادة إعمار لبنان وتعهدت دول كثيرة بتقديم أموال طائلة بعضها على شكل هبات ومنح وبعضها على شكل قروض, كما فعلت فرنسا وأمريكا على سبيل المثال. أقول مثل هذه الدول لا بد من الوقفة المتأنية بشأن إعمارها والتساؤل حول أسباب دمارها ومن الذي فعل ذلك. الدول الثلاث لم تتعرض لنكبات طبيعية بل تعرضت لعدوان خارجي آثم, ذلك أن أفغانستان والعراق تم غزوهما من قبل الولايات المتحدة وهي التي أحدثت وتسببت في الدمار والخراب الذي حل بهما ولم تكتف بذلك بل أشعلت نار الفتنة الطائفية في العراق مما زاد الطين بلة, أما لبنان فالاعتداء الإسرائيلي خلال الصيف الماضي هو الذي دمره ودمر بنيته التحتية, ولذا فإن الإعمار والإنفاق بسخاء من قبل أطراف لم تتسبب في الدمار أمر يحتاج إلى المراجعة, فالإعمار يجب أن يتحمله من تسبب فيه إذ لا ذنب للدول الأخرى كي تقوم بواجب غيرها, كما أن الإسهام في الإعمار بهذه الصورة يشجع المعتدي على الاستمرار في العدوان مع دول أخرى طالما أنه لن يقع تحت طائلة المحاسبة ويجد من يعمر ما يقوم بتدميره. وهذا الوضع يماثل ما قد يقوم به اللصوص وقطاع الطرق إذا لم يجدوا من يحاسبهم وإذا لم يشعروا بوطأة أعمالهم.
لقد وجدت بعض الدول الغربية وبالأخص المعتدية منها في الحروب مشروعاً استثمارياً يحقق لها الكثير من المكاسب السياسية والاقتصادية والثقافية واللوجستية, ولا غرابة فيما نراه من سعي حثيث لإشعال الفتن والحروب في أماكن متفرقة من العالم سواء في عالمنا العربي والإسلامي كما في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان ودارفور والصومال, أو في أماكن أخرى كما في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وشرق آسيا كما حدث في تيمور الشرقية ودعم انفصالها عن إندونيسيا. وكأني بالدول التي جعلت من الحروب صناعة ومشروعاً تنتفع به تطبق المثل القائل مصائب قوم عند قوم فوائد. فالحروب وحسب فلسفتهم النفعية تدر عليهم الأموال ببيع السلاح والخبراء وتسويق المرتزقة وشركات الأمن كما هو حادث في العراق الآن. كما أن مصانع السلاح لديها تعمل بكامل طاقتها بدلاً من إغلاقها أو تسريح كثير من عمالها ما يترتب عليه بطالة تضاف إلى البطالة القائمة, ومن المكاسب أيضاً إشغالنا بأنفسنا ومصائبنا وبحروب بعضنا البعض الآخر وفي هذا إبعاد لنا عن المشاركة في بناء الحضارة العالمية وتوجيهها التوجه المناسب, فهم يضمنون ترتيب العالم وفقما يرغبون ووفقما يخدم مصالحهم, ولا غير, ولا غرابة في أن نسمع عبارة المصالح المشتركة على ألسنة الساسة الغربيين للتعبير عما يجمع بينهم سواء كانت هذه المصالح أيديولوجية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية. إن صناعة المجتمعات وتشكيلها وفق الرؤية الغربية هدف يجب ألا يغيب عن أذهاننا, فهو هدف أساسي ويسعون إلى تحقيقه ويخططون له منذ فترة ليست بالقصيرة .
وإزاء هذا الوضع الذي نحياه ونحن محدودو الحركة أو أقرب إلى التقييد يلزم أن نسأل كيف تكون مشاركتنا في إعادة إعمار الدول التي ابتليت بحروب شنت عليها من الخارج أو بحروب داخلية بين فئات اجتماعية؟ أعتقد أن ما يجب أن يتم هو السعي من خلال جميع المنابر الثقافية والسياسية, الدولية والإقليمية والمحلية, إلى تشكيل رأي يسعى, لا أقول إلى إقناع من تسبب في هذه الحروب أن يتكفل بإعمار ما دمرته آلته الحربية, بل إرغامه على تحمل وزر أفعاله. وهذا كما أعتقد ينطبق على الدول التي تشن الحروب والعدوان على دول أخرى مهما كانت هذه الدولة, كما في حالة أمريكا وبريطانيا اللتين قررتا الحرب على العراق أو الدول الإفريقية التي توجد بينها حروب مماثلة كما حدث من إثيوبيا إزاء الصومال أو ما حدث من إسرائيل تجاه لبنان خلال الصيف الماضي. أما في حالة كون الدمار نتيجة نزاع داخلي, فالأمر قد يختلف قليلاً, إذ يمكن الدعم والمساندة في إعادة الإعمار الجزئي وفق شروط تضمن عدم تكرار مثل هذه النزاعات العبثية التي تستنزف قوى الأمة ومواردها واقتصاداتها, كما أرى أنه في حالة المشاركة في إعمار الدول المدمرة أن تكون المشاركة على هيئة مشاريع ولا تعطى أموال نقدية, وأقترح أن تعهد إعادة الإعمار لشركات من الدولة المشاركة في الإعمار ويركز على المشاريع الحيوية كالكهرباء, والمياه والمدارس والمستشفيات والطرق, مع تأكيد ضمان الفائدة المعنوية والمادية من هذه المشاريع, وذلك بكتابة اسم الجهة المنفذة على المشروع وجعله على أوراق المشروع الرسمية. أما الفائدة المادية فتكون من خلال تقديم معونات الإعمار على شكل قروض أو فرض رسوم حتى ولو كانت بسيطة وطويلة المدى يستعاد بموجبها المبلغ المنفق على المشروع. إن دعم مشاريع إعادة الإعمار بهذه الطريقة يشعر أطراف الاقتتال الداخلي بمرارة التجربة وصعوبتها وقيمة المنشآت والموارد وضرورة المحافظة عليها. إن الدعم الحاتمي غير المشروط يترك آثاراً سلبية في كثير من الأحيان, فهو بمثابة ما يسميه علماء النفس التدعيم والتعزيز الإيجابي لسلوك سيئ وغير مرغوب فيه, ويمكن تشبيه الدعم غير المشروط باللص الذي يسرق ويجد من يصفق له ويثني على سلوكه وفعله, حيث يقوم بتكرار سلوك السرقة طالما أنه يجد من يشجعه على هذا الفعل. لا شك أن الدعم للآخرين ومؤازرتهم والوقوف معهم في محنهم وظروفهم يقوي العلاقات بين الشعوب والمجتمعات, لكن وضع هذه المساعدات والإعانات وإعادة الإعمار في إطار فلسفة وطنية واضحة يجعلها أجدى لنا ولمن تقدم لهم وتحفظ حقوقنا المادية والمعنوية في الوقت ذاته. ولذا فالأمر يتطلب إيجاد نموذج وطني يتضمن فلسفة المساعدات الخارجية والمشاركة في إعادة الإعمار وأهدافها والأولويات في هذا الشأن وآلياتها وكيفية تحديد المساعدة أو المشاركة والفوائد المعنوية والمادية المترتبة على هذه المساعدة أو المشاركة وحجم الضرر الذي حدث في البلد المراد مساعدته وأسباب الضرر هل هو لأسباب طبيعية أم عوامل داخلية أو خارجية. وأعتقد أن مثل هذا النموذج سيحفظ لنا حقوقنا ويرسم لنا أسلوب عمل موضوعي لا يتأثر بالعاطفة وحدها.