تراتيب الفقهاء

تراتيب الفقهاء

حينما تقرأ في فواصل تاريخ الفقه فإنك تجد ظاهرة "التراتيب الفقهية" متمثلة في مجموعة من النظم العلمية التي ضبطت التسلسل الفقهي في العصور الإسلامية، وإذا كان من المؤكد أن الفقه الذي تمثل في أقوال الصحابة واجتهاداتهم هو الأكمل من حيث الاتصال بنص الشريعة فإن العصور التالية صاحبها توسع في صناعة الكلام إلى أن ذهبت الفصاحة وتسلسل الاستقراء لنص الشريعة، وترى الأحاديث النبوية اتصلت بالأسانيد، وهذا ضابط لا بد منه، فظهر الاختصاص العلمي ولو بشكل أغلب، وإلا فإن ثمة حقيقة تقول: إن علوم الشريعة متصلة، ولا بد من قدر كلي مشترك لعالم الشريعة والناظر فيها، ومن ظواهر الاختصاص مدرسة أهل الرأي الكوفية، وأهل الحديث في بغداد.
ومع هذه التسلسل العلمي ظهر التمذهب الفقهي، وكان ثمة جملة من المدارس والأصحاب ليس للأئمة الأربعة "وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد" بل هناك أصحاب "الأوزاعي، والليث.." وإن كان الاستقرار في الجملة اتجه لهذه المدارس الفقهية الأربع "الحنفية – المالكية – الشافعية – الحنابلة" ونقرأ أن هذا التمذهب نوع من التراتيب العلمية الفقهية، وهكذا بدأ وتواصل معه المحققون من الفقهاء، ولم يكن بدعة لأنه لم يقع على وجه التعبد المحض بالاختصاص باسم فلان أو فلان من أعيان الفقهاء.
وحينما تقرأ التمذهب الفقهي على أنه نوع من التراتيب العلمية الفقهية فهذا يعطيه اعتدالاً وسعة، ويقطعه عن التعصب المذموم الذي عابه الأئمة المتقدمون من الفقهاء والمحدثين ومنهم الأئمة الأربعة، ويكون هذا النظر العلمي وسطاً بين رفض مطلق للتمذهب، وبين التعصب به عن السنن والآثار وهدي صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام.
ومن معنى هذا القول الوسط في التمذهب وأنه ترتيب علمي له مبرره العلمي من حيث الاختلاف في كثير من أوجه الاستدلال فهو يصنع قاعدة علمية مطردة في فقه الأدلة وترتيب أوجه الاستدلال، فإنك تعرف أن ثمة خلافاً في تراتيب بعض الأدلة ومقاماتها كالقياس، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، وعمل أهل المدينة، فضلا عن تفاصيل فقه الدلالات ومواد عليمة أخرى، فصار التمذهب نظام استقراء موسع يصنع اطراداً وانضباطاً علمياً حتى ينفك من لم يصل رتبة الاجتهاد عن الاضطراب والتناقض.
هذا إجمال معنى التمذهب الفقهي في فقهه المعتدل، وأنه لا يصح أن تترك به السنة، أو يُحاد به عن النصوص، أو يتعصب به بوجه من إبطال الاجتهاد، وإن كان يعلم أنه عرض لبعض الفقهاء ما يخالف ذلك، لكنه ليس التفسير الصحيح لهذا المعنى العلمي، ولا يمثل جمهور الفقهاء، والله الهادي.

الأكثر قراءة