العلاقات الروسية الدولية: مناقشة هادئة
في يوم الإثنين الموافق 24/1/1428هـ عقدت في مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية والعربية محاضرة ألقاها المستشرق الروسي فيتالي ناؤومكين، وذلك على هامش زيارة الرئيس بوتين للملكة التي جاءت تلبية لدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله. وقد حضرت المحاضرة بدعوة كريمة من الدكتور يحيى جنيد المشرف على المركز, وحيث إن المحاضر تناول قضايا مهمة, لذا رأيت أهمية مناقشة أهم القضايا التي طرحها، خاصة أنني أؤمن أن تأسيس علاقات متميزة بين الدول يفترض أن يؤسس على طرح فكري يقوم به المثقفون والمفكرون في الدول التي يراد تأسيس مثل هذا النوع من العلاقات, خاصة أن الدكتور مفكر قد يؤثر بشكل أو بآخر في توجهات السياسة الروسية نحو العرب والمسلمين, لأنه متخصص في الدراسات العربية والإسلامية ونشر الكثير من البحوث في هذا المجال. ونظراً لأن العالم واجه ويواجه الكثير من المشكلات والمخاطر في ظل الهيمنة الأمريكية والقيادة الفاشلة للعالم التي شرعت فيها السلب والنهب والتدمير, لذا رأيت أهمية مناقشة جزء مما طرحه رغم أنه تم مداخلته في هذا الشأن لكنه لم يعلق وإن علق على بعضها فقد كانت تعليقاته على شكل عموميات.
المحاضرة حملت عنوان الدور الجديد لروسيا في العلاقات الدولية، حيث أوضح المحاضر أن هذا الدور محدود بحدود الرغبة والقدرة وهو محق في هذا وكأنه يستشهد ببيت الشعر العربي الذي يقول فيه الشاعر:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
**** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ذلك أن الرغبة قد تكون قوية ولا حدود لها لكن الإمكانات التي توصل لهذه الرغبة وتحققها محدودة, إذ إن الآليات والأدوات السياسية والاقتصادية والتقنية والثقافية بل والعسكرية قد تقصر عن تحقيق هذه الرغبات.
وقد أكد في المحاضرة أن الدور الروسي الجديد في شأن العلاقات الدولية يرتكز على مجموعة أمور وذلك حسب رأيه وليس كما تفكر المؤسسة السياسية الروسية, إذ إنه أكد أنه لا يتحدث باسمها. وأول هذه المرتكزات بند القوة واستخدامها في العلاقات الدولية فالمشكلات حسب رأيه لا تحل بالقوة بل بالتفاهم والتواصل بين الأمم والحوار الذي يوصل في النهاية إلى حل المشاكل القائمة كافة, كما أكد أنه يرى أن روسيا في عصرها الجديد قد ودعت العصر السوفياتي ولا تريد أن تعيد تجربة الإمبراطورية السوفياتية القائمة على الجبروت والتدخل في الشؤون الداخلية للدول والأمم الأخرى وكأنه يذكر بما حدث من أنزال جوي على براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا قبل تفككها، حيث احتلت القوات السوفياتية في الستينيات الدولة بكاملها حين تصرفت بما قد يوحى بتمردها على المعسكر الشرقي.
ومن الأفكار التي طرحها المحاضر إشارته إلى أن روسيا لا تريد العودة إلى العصر الأيديولوجي, وكأني به في هذه الفكرة يغازل الحضور خاصة أن معظمهم عرب مسلمون فهو يقول وكما فهمت ألا عودة لأيديولوجيا الإلحاد ومحاربة الأديان والنزعة المتطرفة في النظام الاجتماعي, وأعتقد أنه صادق في عدم الرغبة في العودة لهذه الأيديولوجيا لأن هذه الفلسفة أوردت الاتحاد السوفياتي ومن ضمنه روسيا بل والمعسكر الشرقي بكامله موارد الهلاك والإفلاس. ويكفي أن نرى الاتحاد السوفياتي وقد تقطع وتمزق إربا إربا ولم يعد له وجود بل لم يعد لدوله المكونة له ذلك التأثير والحضور على الساحة الدولية. ومع أني أتفق معه في ضرورة الطلاق الذي لا رجعة فيه لأيديولوجيا الاتحاد السوفياتي التي سبق الإشارة إليها, وقد قلت له هذا في المداخلة, إلا أني أرى أن أي مشروع حضاري نهضوي يستهدف البناء والقوة لا بد له من أيديولوجيا تسيره وتوجهه ويجتمع عليها الناس, لأن الناس من دون هذا الإطار الأيديولوجي يضيعون ويتشتت شملهم وتتعدد وجهاتهم, فالإسلام يمثل للمسلمين المنطلق العقدي الذي يجتمعون عليه ويصدرون منه وبدونه يكونون أشتاتاً يحكمون أهواءهم ورغباتهم ومشاربهم الإقليمية والعرقية. إن الأيديولوجيا تمثل وكما أعتقد الطاقة التي تحرك الناس وتوجههم الوجهة السليمة، وقد قيل له هذا الشيء أثناء المحاضرة لكنه لم يعلق على هذه الفكرة وقد يكون السبب تجنب الإشارة إلى الخلفية الدينية الأرثوذكسية لروسيا كأساس لأي أيديولوجيا حاضرة أو مستقبلية.
السياسة الخارجية لروسيا كما يرى المحاضر يفترض أن تقوم على شكل مثلث تتكون أضلاعه من أمريكا والاتحاد الأوربي وروسيا, ولا شك أن هذه الرؤية للمحاضر بشأن السياسة الدولية المستقبلية فيها إجحاف بحق الأمم الأخرى خاصة أن محاور المثلث كلها ذات خلفية وثقافة مسيحية والكل يعلم ما يعانيه العالم في الوقت الراهن من تفرد الولايات المتحدة الأمريكية في السياسة الدولية وهي التي لا يخفى على أحد خلفيتها الدينية. وقد أوضحت للمحاضر هذا الرأي وسألته لماذا لا تكون السياسة الدولية قائمة على شكل خماسي أو سداسي حتى يكون هناك تمثيل لجميع القوى والثقافات الأخرى في العالم؟ لكنه مرة أخرى لم يعلق.
أكد المحاضر أن القراءة الجديدة للعلاقات الدولية يفترض أن تأخذ في اعتبارها روسيا والدور الذي يفترض أن تلعبه على الساحة الدولية وأشار إلى أهمية أيجاد قيادة جماعية للعالم وإيجاد أقطاب دولية وإقليمية بغرض إعادة تنظيم العالم وإعادة التوازن إليه. ومع اتفاقي معه في هذا الشأن إلا أن الحل لا يكون من خلال النموذج الذي أقترحه والذي يأخذ شكل المثلث السابق الإشارة إليه. وبغرض تأكيد الروح الجديدة التي دبت في دهاليز السياسة الروسية أشار إلى أن روسيا استعادت شيئاً من قوتها من خلال رئاستها مجموعات دولية ومن خلال تبنيها الدبلوماسية الشبكاتية والقائمة على علاقات ثنائية وأخرى جماعية كما هي العلاقة مع الصين والهند والبرازيل ومع العالم العربي والإسلامي والسعي الذي يبذل بغرض إيجاد منظمة لمصدري الغاز على شاكلة منظمة أوبك.
لقد أعجبني ما أشار إليه المحاضر من إدراك القيادة الروسية واقع روسيا الداخلي الاقتصادي والاجتماعي والصناعي والتقني والالتفاتة الواضحة والقوية التي أعطتها القيادة الروسية لهذا الشأن. البناء الداخلي هو أساس التحرك الفاعل على المستوى الدولي وهو أساس القوة التي تتحقق لأي مجتمع على الأرض. والصين قبل سنين عدة وكذا اليابان لم يكن لهما أي اعتبار يذكر لكن بالاهتمام بالداخل وبناء عناصر القوة الداخلية البشرية من خلال العلم والثقافة المستنيرة وتأهيل الكفاءات الوطنية في المجالات كافة استطاعت الدولتان أن توجدا لهما مراكز قوية على الصعيد العالمي فهل نعي نحن في العالم العربي والإسلامي أهمية بناء الذات ونوجه قوانا وتفكيرنا ومواردنا لبناء أوطاننا لأن الآخرين لم ينفعونا عندما كنا فقراء ولن ينفعونا عندما تنضب ثرواتنا؟!
بقي أن أقول إن صعود أي قوة سواء كانت روسيا أو غيرها لن يكون إلا بجهود أبنائها وبتطوير قدراتها الذاتية وستكون النتيجة إعادة شيء من التوازن في العلاقات الدولية. وهذا مفيد لنا وللعالم أجمع لكن يجب ألا نعول على هذا بل لابد من أن نزرع ونستنبت القوة في تربتنا مع استثمارنا لجميع العلاقات مع الآخرين في الوقت ذاته.