الكفاءات الإدارية خير من يحارب الفساد
إدراك القيادة الرشيدة لخطورة استشراء الفساد على أداء اقتصادنا ومستقبل بلادنا يتجلى في قرار مجلس الوزراء أخيرا بإنشاء هيئة لمكافحة الفساد. والفساد مشكلة تزداد حدة وتغلغلا في القطاعين العام والخاص، وتأخذ أشكالا مختلفة تمتد من مجرد المحسوبية واستغلال الموقع الحكومي لتحقيق أغراض شخصية وتمتد إلى خيانة الأمانة والتعامل بالرشوة. وفي أدبيات الاقتصاد هناك ما يعرف بلعنة الموارد Resource Curse، والذي يقصد به تدني معدلات النمو الاقتصادي وتفاقم المشكلات الاقتصادية في البلدان الغنية بالموارد الطبيعية كالنفط مثلا، مقارنة ببلدان تعاني من نقص شديد فيها، بسبب انتشار الفساد في ظل سهولة ويسر تدفق الموارد المالية الذي تتيحه وفرة الموارد الطبيعية.
لذا فأبرز أسباب تفشي الفساد في البلدان النامية، وخاصة الغنية بالموارد الطبيعية، هو تدني مستوى كفاءة وفاعلية القيادات الإدارية في الأجهزة الحكومية نتيجة وفرة الموارد وعدم وجود حاجة ملحة لتحقيق أداء عالي الكفاءة، ما انعكس بدوره على مستوى أداء تلك الأجهزة وأوجد بيئة يستشري فيها الفساد ولا تساعد على محاسبة المقصر ومكافأة المجد. وأصبح ما يتحقق من أداء، ومهما كان متواضعا مقبولا ولا يعتقد أن بالإمكان تحقيق أفضل منه، أو أن لهذا القصور في الأداء دورا في حدوث مشكلة كان من الممكن تفاديها لولا افتقار القائمين على الجهاز لروح المبادرة والقدرة على اتخاذ القرارات الجريئة في الوقت المناسب وحرصهم الشديد على عدم الاصطدام بالمصالح الشخصية حتى لو تعارض هذا الموقف بشكل سافر مع المصلحة العامة وكفاءة وفاعلية الجهاز الذي يديرونه.
نحن كغيرنا من الدول النامية الغنية بالموارد الطبيعية نواجه هذه المشكلات المستعصية، وإدراكنا لذلك واتخاذنا خطوات عملية للحد منها سيسهمان دون أدنى شك في الحد من آثارها ورفع كفاءة أداء مؤسساتنا العامة والخاصة. على سبيل المثال، معدل إنفاقنا على التعليم واحد من أعلى المعدلات في العالم، ومع ذلك يتدهور تعليمنا عاما بعد عام، ونبحث عن أسباب هذا التراجع في كل مكان عدا جوانب القصور في أداء الأجهزة المسؤولة عن التعليم. ويتعرض اقتصادنا لأزمة يعاني بسببها معظم أفراد المجتمع من كارثة مالية، ومن العجيب حدوثها في ظل طفرة شاملة، وتتعامل الأجهزة المسؤولة عن الشأن الاقتصادي مع الحدث كما لو كان قدرنا المحتوم الذي لم يكن بالإمكان تفاديه. وتنتشر البطالة ومعها ونتيجة لها يتفشى الفقر في بلد يمر بطفرة هائلة، ويعمل فيه ما يزيد على عشرة ملايين عامل أجنبي. وتتزايد مظاهر الاختلال الأمني في ظل غياب عقوبات رادعة بحق المجرمين، فاقمها تدفق عمالة رخيصة وجودها لم تتسبب فقط في تضييق الفرصة أمام المواطن، ما اضطره أحياناً إلى سلوك طريق الجريمة بسبب الحاجة والفراغ، وإنما هي نفسها، ولعدم وجود حاجة حقيقية لها، الكثير من أفرادها امتهن الإجرام والإفساد في بلادنا. ويتدنى مستوى أداء الأجهزة الرقابية وتنتشر أنماط مختلفة من الفساد، وفي بحثنا عن مواطن الخلل أنشأنا أجهزة رقابية جديدة، إلا أن أداءها لم يكن أفضل حالاً من أداء الأجهزة التي كانت تتولى مهامها من قبل، وكل ما نتج عن إنشائها هو زيادة في الإنفاق الحكومي وتوسع في الجهاز البيروقراطي للدولة.
إن تدني مستوى أداء العديد من الأجهزة الحكومية بما فيها أجهزة رقابية قائمة هو المسؤول عن استشراء الفساد، وهو السبب الذي ولد الحاجة إلى إنشاء أجهزة جديدة لمحاربته، ومهما وفر لهذه الهيئة الجديدة من إمكانات فسيكون من الصعب عليها القيام بمهمة الرقابة على الفساد نيابة عن كل مسؤول لا يملك الكفاءة أو الرغبة في تطبيق الأنظمة ومحاربة الفساد في جهازه، ويخشى أن تتحول إلى مجرد إضافة جديدة إلى البيروقراطية الحكومية كغيرها من الأجهزة الرقابية القائمة. لذا فنحن في أمس الحاجة إلى مراجعة المعايير الذي يتم على أساسها اختيار القيادات الإدارية في الأجهزة الحكومية، الذي تسبب في تدني أداء أجهزة تنفق عليها الدولة بكل سخاء، وتُوفر لها مختلف الإمكانات التي كان من المفترض أن تعينها على أداء مهامها، لو واكب ذلك قيادات إدارية كفؤة، والحل دائما وأبدا هو في علاج المشكلة نفسها لا في علاج أعراضها.