غموض بنّاء!
في كانون الثاني (يناير) الماضي تراجع سعر سلة منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" 7.22 دولار للبرميل إلى 50.73 دولار، وهو أقل معدل له منذ أيار (مايو) 2005. التراجع لم يكن مفاجئا، بدليل أن "أوبك" كانت قد اتخذت قرارا في تشرين الأول (أكتوبر) بخفض إنتاجها بمعدل مليون ونصف المليون برميل يوميا، ألحقته بآخر في اجتماع أبوجا الدوري بعد ذلك بنحو شهرين وإقرار خفض نصف مليون برميل أخرى.
وإذا كانت المنظمة قد تحسبت لهذه التطورات، بل إنها فاجأت السوق بالإعلان عن خفض مليون ونصف المليون برميل، في الوقت الذي كان فيه الكل يتوقع خفض مليون برميل فقط، فإن مشهد السوق النفطية في الوقت الحالي يظل محكوما بتقلبات عناصر معظمها خارج السيطرة، الأمر الذي يرشح سلم الأسعار إلى حالة من التقلبات تحتاج فيه "أوبك" إلى الاغتراف من مخزونها وتجاربها التاريخية للتعامل مع هذه الحالة.
الضعف الذي انتاب سعر البرميل خلال شهري كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) الماضيين يعود بصورة رئيسية إلى التقلبات المناخية وحالة الدفء التي ميزت النصف الشمالي من الكرة الأرضية وبصورة غير معهودة، أسهمت بدورها في تعميق النقاش حول التغييرات المناخية ودور الصناعة النفطية فيها. هذا بالطبع إلى جانب عناصر أخرى مثل النمو في حجم المخزونات الأمريكية، الأمر الذي قلل من المخاوف من حدوث انقطاع في الإمدادات من أي دولة منتجة. لكن خطوة "أوبك" بخفض الإنتاج وقيادة السعودية لهذا الإجراء عبر الإعلان عن عمليات خفض ملموسة حتى قبل دخول قرار تقليص الإنتاج حيز التنفيذ، دفع برسالة أن المنظمة تتبع خطا جادا.
ثم جاءت موجة البرد في منتصف كانون الثاني (يناير)، إلى جانب بروز العامل الجيوسياسي، حيث شكل النزاع الإيراني مع مجموعة الدول الغربية الستة، أرضية داعمة لتوجه سعر البرميل إلى أعلى، ولهذا وجدت "أوبك" أنها ليست مطالبة بالمضي قدما في استكمال برنامج خفض الإنتاج، بل إن الدعوات بدأت ترتفع في اتجاه أن تقوم المنظمة بدورة 180 درجة وتعود إلى سياسة ضخ المزيد من الإمدادات لإحداث التوازن المطلوب في السوق، خاصة في ضوء التقارير المتتالية عن النمو في الطلب على النفط مع استمرار الوضع الاقتصادي العالمي في التوسع ولو بصورة أقل مما سبق، لكنها متصلة، وعدم قدرة المنتجين خارج المنظمة على تلبية كل الاحتياجات الإضافية.
تراجع سعر البرميل، وسلة "أوبك" نموذجا، وهبوطه إلى أقل من 50 دولارا في أحد أيام التعامل، وتوجهه في الوقت الحالي إلى اختراق حاجز 63 دولارا النفسي للخام الأمريكي الحلو "ويست تكساس"، يشير إلى احتمال دخول السوق مرحلة من الاضطراب والتقلبات السعرية نتيجة عوامل متعددة وخارج السيطرة، منها ما يتعلق بتغيرات المناخ ومنها ما يتعلق بظروف الإمدادات من مختلف المنتجين داخل المنظمة وخارجها، إلى جانب عودة العامل السياسي في شكل اضطرابات محلية أو ذات بعد إقليمي أو دولي كما هو الحال مع نيجيريا، فنزويلا، وإيران مثلا.
"أوبك" مرت بمراحل من هذا النوع، لكن في معظم الأوقات كانت أسيرة البطء الذي يقارب الجمود، سواء من ناحيتي تحركاتها المقيدة بعنصري السعر الرسمي والسقف الإنتاجي. كما أن آلية التحرك عبر الاجتماعات الدورية التي كانت تستغرق وقتا ليتم اتخاذ قرار فيها لم تكن لتساعد في متابعة حالة التقلبات السعرية السريعة والمتلاحقة.
ومع أن أسلوب عمل المنظمة شهد تغيرات عديدة مثل اللجوء إلى نطاق سعري، وتكليف قيادة ثلاثية في بعض المرات لإدارة السوق والتوصل إلى قرارات بصورة تشاورية هاتفية، بل وقيام البعض خاصة السعودية بتصرفات منفردة من خفض للإنتاج أو زيادته وفق احتياجات السوق، إلا أن الحاجة تظل ماسة لتجاوز حالة الغموض البناء الراهنة.
أولى الخطوات لتجاوز هذه الحالة يتمثل في الإعلان عن نطاق سعري معين، وربما تقنين ما اتضح أن السوق تتواءم معه، وهو بين 55 و60 دولارا للبرميل، الذي اتضح أنه سعر مجز للمنتجين وليست له تأثيرات سلبية بصورة رئيسية على المستهلكين، بل ولا حتى على نمو الطلب على النفط.
مثل هذا الإعلان يمكن أن يوفر الأرضية الملائمة لوضع بعض النقاط على الحروف. فمن خلال مثل هذا السعر الذي يمكن اعتباره سعرا عادلا يمكن الدخول إلى مجالات أخرى، مثل البدء في تطبيق الاستراتيجية البعيدة الأمد. كما يمكن تقنين وضع الحجم الإنتاجي ومن ثم الاستمرار في برامج رفع الطاقة الإنتاجية، مع التحرك في اتجاه الحصول على تفاهم مع المستهلكين في هذه القضايا.
لقد جربت "أوبك" من قبل استهداف سعر معين استغرق الأمر عدة سنوات للوصول إليه، كما تحولت في أحيان أخرى إلى استراتيجية التركيز على زيادة حصتها في السوق وعدم الاهتمام بالسعر.
الوضع الآن اختلف، إذ هناك حاجة للاستمرار في جانبي التوسع في الحصة في السوق والحصول على أفضل سعر ممكن، وحالة الغموض البناء السائدة حاليا يمكن أن تكون خطوة أولى على هذا الطريق.