لكي ينعم المواطن بحياة كريمة يجب أن نعطي للسيولة قيمتها الحقيقية
من المتعارف عليه أن قيمة السلع والخدمات أيا كانت يحددها مجموعة من النفر بناء على عدة عوامل، كالوفرة والندرة والصورة الذهنية والطلب الحقيقي والمضاربة والتكلفة، إلى ذلك من العوامل التي يتداخل فيها الاقتصادي بالثقافي وبالاجتماعي، بل حتى بالسياسي في بعض الأحيان. ومن المعروف أيضا أن النقد ليس قيمة بحد ذاته، بل هو وسيلة لتمثيل قيمة الأشياء. والقيمة الحقيقية للنقد تتمثل في تملك أو استعمال السلع أو الحصول على الخدمات وتحقيق الفائدة المرجوة منها، لذلك دائما ما نرى الناس لا تعتبر المال قيمة بحد ذاته، فمَن يمتلك مليون دينار عراقي - على سبيل المثال - في عام 1978م في مكان ما، وأخرجه اليوم في عام 2007م لكي يشتري به سلعة أو خدمة سيجد أنه ليس أكثر من كتلة من الورق لا تعادل 0,25 في المائة من قيمة هذا المليون في العام الذي ادخره فيه. ولو أنه اشترى به منزلا في وقت ادخاره لاستخدمه وتمتع به أو لأجره وحصل على عوائده، ولحافظ على قيمة المليون اليوم كما هو في السابق أو أفضل، ذلك بأنه يمتلك منزلا يرتفع سعره بما يتناسب ومعدلات التضخم في العملة العراقية.
والبترول الذي يشكل أكثر من 90 في المائة من مصادر دخلنا في المملكة العربية السعودية، هو سلعة طبيعية لم يكن لها أي قيمة تذكر فيما مضى من القرون، حتى اتخذ الغرب من البترول مصدرا كبيرا للطاقة، وطور صناعات اتخذت من مشتقاته مواد أولية لها، وتبعه فيما بعد العالم كله في هذا الاتجاه مما زاد في قيمة البترول حتى سميَ بالذهب الأسود بعد أن كان بالنسبة لنا زفت أسود نطلي به البعير الأجرب، وكلنا يعرف أن قيمة هذه السلعة تتذبذب بشدة صعوداً ونزولاً لعوامل كثيرة يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي والثقافي، وكلنا نتوجس خيفة من أن تنخفض قيمته بشكل كبير إذا تم اكتشاف بدائل جديدة وفعالة للطاقة، ولذلك تجدنا لا نألوا جهدا في سبيل توفير بدائل جديدة للدخل الوطني، إضافة لمحاولاتنا تطوير استخدامات البترول في غير مجالات الطاقة كأن يكون مادة أولية لقاعدة عريضة من الصناعات.
وبما أن وضع المصدر الرئيسي لدخلنا الوطني في هذه الحالة فإنه علينا أن نحث الخطى للاستفادة المثلى من إيراداته المالية التي وفرت لنا ميزانيات كبيرة وسيوله نقدية وصلت لأكثر من 620 مليار ريال، علينا أن نحول تلك السيولة إلى قيمة حقيقية، بحيث تتحول تلك السيولة إلى أصول رأسمالية وإلى موارد بشرية عالية المعارف والمهارات والقدرات، وإلى منشآت منتجة للسلع والخدمات وإلى مراكز بحوث منتجة للمعرفة في سبيل تنويع مصادر الدخل من ناحية وفي سبيل توفير سبل الحياة الكريمة التي تتناسب وحجم السيولة المتاحة في البلاد.
وقد يقول قائل إنك تبالغ فها نحن نحول هذه الميزانيات الضخمة إلى ما تنادي به، وأقول نعم هذا صحيح إلى درجة ما، نعم فلدينا حكومة يرأسها ملك يحب لشعبه ولبلده التطور والنمو وهو يحث الجميع على تحقيق ذلك في كل مناسبة، وهذه الحكومة لها من المقاصد النبيلة ما لا يختلف عليه اثنان، ولكن الخلاف كل الخلاف على سلامة المنهج لتحقيق هذه المقاصد النبيلة، لذلك تجدنا نراوح مكاننا أو نتقدم بخطى بطيئة لا تتناسب وتسارع التغيرات، مما جعل السيولة وبالا علينا بدل أن تكون خيراً لنا. وكلنا يعلم أن نحو 180 مليار ريال ذهبت إلى المواطنين على شكل قروض استهلاكية توجه معظمها لسوق الأسهم لنخلق مشكلة أصابت كل أسرة سعودية، بدل أن نحول هذه المبالغ إلى مراكز أبحاث ومنشآت صناعية وتجارية وخدمية صغيرة ومتوسطة وعملاقة، بما يمكن المواطن من الحصول على الوظيفة وعلى الخدمات وعلى السلع بما يتناسب وحجم السيولة التي تدخل البلاد، وبما يجعل تلك السيولة سيولة ابتدائية لإنتاج السيولة بشكل أكثر توسعا.
يقال إن سنغافورة اقترضت نحو 300 مليون دولار، وأقول اقترضت، ثم وضعتها في هيكلة إدارية وفنية وقانونية لتطبيق استراتيجية تقضي بأن تتحول سنغافورة إلى مركز مالي وميناء بحري كبير، وهذا ما كان، واستطاعت تسديد هذا القرض في مدة وجيزة، وأصبحت دولة منتجة للسيولة وبلدا ثريا يتمتع سكانه بالقيمة الحقيقية للسيولة التي اقترضوها، فما بالنا نعاني من أزمة سكانية ورداءة في الخدمات الصحية وسوء منتج تعليمي، وضعف في الخدمات التحتية في كثير من المدن والأحياء (جدة مثالا) ونحن ننعم بمليارات لا نعرف أين نذهب بها؟
الإجابة واضحة والكل يعرفها وهي ضعف في الهياكل المالية والإدارية والتشريعية أدى إلى ضعف في قدرتنا على تحويل تلك السيولة والإيرادات المالية الضخمة إلى قيم حقيقية تجعلنا نؤمن بأننا أصبحنا في مصاف الدول التي تنعم بتنمية مستدامة تقوم بإنتاج العقول لا تنمية مؤقتة تقوم بإنتاج الحقول التي قد تنضب أو يستغنى عن منتجها. وفي ظني أننا نحتاج إلى إعادة هيكلة سريعة، وهذا لا يعني بالطبع أن الهيكلة السابقة كانت خاطئة، بل إن ذلك ديدن الدول المتقدمة والشركات الكبرى، فهي دائما ما تغير هياكلها بشكل جزئي أو كلي لتواكب التغيرات المتسارعة من حولها، وهي تؤمن كل الإيمان بأن من لا يتقدم دون أن يبذل جهدا وسصبح في آخر الركب.
حضرت الكثير من المؤتمرات وقرأت الكثير من التوصيات وشاهدت الكثير من البرامج واطلعت على كثير من التجارب العالمية الناجحة، وتوصلت إلى نتيجة مهمة، وهي أن الهيكلة السليمة لأي قضية هي المفتاح السحري، والهيكلة تعني هيكلة الشركة أو الدولة ماليا وفنيا وإداريا وقانونيا بحيث تستطيع أن تستجيب لمتطلبات النمو بأعلى كفاءة ممكنة، ولذلك دائما ما نسمع عن إعادة الهيكلة، ولقد رأيت دولاً وشركات بإمكانات مالية وبشرية ضعيفة استطاعت أن تنمو بشكل كبير وتتصدى للتحديات كافة وتنهض نهضة تلفت الأنظار بعد أن وضعت هياكل سليمة تفعل الطاقات والإمكانات المتاحة. ولقد رأيت دولاً وشركات تنعم بإمكانات يسيل لها اللعاب ما زالت تعاني من المشكلات والأزمات المزمنة بسبب الهياكل المعوقة التي بفعل التقدم أصبحت دستورا لا يمس وإن أصبحت عائقا كبيرا للاستفادة المثلي من الإمكانات.
وحيث إن موضوعنا يتكلم عن السيولة، فإنني أعتقد أنه حان الوقت أن تتكامل مؤسساتنا الاقتصادية والمالية في وضع وتطبيق خطة استراتيجية تحول السيولة المتاحة إلى قيمة حقيقية في البلاد، بحيث يجد المواطن الوظيفة المناسبة في الوقت المناسب، ويجد الخدمات الأساسية (تعليم، علاج، سكن) بالجودة المناسبة، التي تجعل منه مواطنا سليما متوازناً نفسيا واجتماعيا منتجا للمعرفة والسلع والخدمات. نعم حان الوقت أن تتكامل وزارة التجارة، وزارة الاقتصاد والتخطيط، وزارة المالية، مؤسسة النقد العربي السعودي، وهيئة السوق المالية من أجل تحويل تلك السيولة الكبيرة إلى قيمة حقيقية تجعل المواطن والمقيم يشعر بأنه يعيش في دولة غنية ذات إيرادات مالية سنوية تقدر بالمليارات، وتجعله يطمئن بأن تلك الإيرادات لن تنقطع وإن تأثرت أسعار البترول لأي سبب كان، وذلك بسبب توسيع القاعدة الاقتصادية القادرة على الوفاء بمتطلبات التنمية والعيش الكريم حتى وإن تأثر أي عنصر من عناصرها.
نعم أيها الإخوة إن المواطن لن ينفعه أن يسمع أنه يعيش في دولة غنية ذات إيرادات مالية كبيرة وسيولة مالية هائلة، ولا ينفعه أن يسمع عن مشاريع عملاقة بميزانيات أكبر من عملاقة دون أن يرى آثار ذلك على أرض الواقع، يرى أثر ذلك قيماً ترفع من مستوى معيشته وترفع من كرامته وتجعله قادرا على استهلاك المعرفة وإنتاجها بما يؤمن له ولأبنائه وأحفاده متطلبات العيش الكريم، وكلنا ثقة بحكومتنا الرشيدة بقيادة ملك القلوب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ حفظه الله ورعاه ـ، وبالمسؤولين في الحكومة والقطاع الخاص في تحقيق آمال المواطنين، وسيلة التنمية وغايتها.