رأس المال الاجتماعي ودوره في حماية أسواق المال الخليجية واقتصاداتها (1 من 2)
"أتمنى ألا نفتح أبوابا نحن غير قادرين على استضافة وضيافة من يدخل منها حتى يكون البيت الداخلي جاهزا!". ومناسبة هذا المقال هي قرار مجلس الوزراء الأخير حول الموافقة على استراتيجية مكافحة الفساد والموافقة على تشكيل هيئة معنية بهذا الشأن.
وللبدء لا بد من أن تكون البداية عن أسواق المال والحديث حولها لا يمل ولا ينتهي، هذا إذا ما علمنا أن سوق الأسهم لدينا على وجه الخصوص وفي وقت من الأوقات تجاوزت الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بضعفين وزيادة في عام 2005م (أي أنها هي الاقتصاد) مع ضرورة معرفة أن شركة أرامكو المصدر الوحيد للنفط في المملكة والشريان الذي نتنفس من خلاله غير ممثل ضمن هذه السوق. وهو أمر فيه كثير من المؤشرات على أن أسواق المال قد تشكل أهمية كبيرة وعبئا في الوقت نفسه، بالتالي يجب أن نكون في مستوى التحدي في التعاطي معها. ونعلم أن بعض الدول تعتمد في اقتصادها على أسواق المال وحركة الأموال منها وإليها. حتى إن الحديث دوليا هذه الأيام عن سيطرة قطاع المال على الاقتصاد الدولي، وأن الدول ممثلة في البنوك المركزية والمشرعين غير قادرين على لجم هذا التداخل والتعقيد اللذين يشهدهما القطاع المالي بشكل خاص، بحيث إن إدارة دفة الاقتصاد لم تعد ملك الدول، أو لن تكون في يد الدول في المستقبل القريب. وطبعا الدول مكتملة النمو والبناء المؤسسي سوف لن تتأثر كثيرا بهذا التوجه، لأن لديها البنى التحتية التي تستطيع من خلالها صيانة كيانها وحماية مجتمعها عبر الوسائل الحديثة، التي سنتحدث عنها بالتفصيل.
ومن دون العودة كثيرا إلى ما حدث لدينا منذ الهبوط الاضطراري في 25 شباط (فبراير) 2006 في سوق الأسهم، وهي تجربة ثرية رغم مرارتها وقسوتها، ولكن دوما نردد "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"، ودون الدخول في تفاصيل تأثيرات ما حدث في المستويين الاقتصادي والاجتماعي، التي يتضح يوماً بعد يوم أنها فاقت العديد من التصورات وفيها نوع من العمق في الجراح التي ولحسن الحظ أنها أتت في هذا الوقت مع السعة والبحبوحة التي تعيشها دول الخليج بسبب سعر برميل النفط وإلا كانت المأساة أكبر، نقول إن ما حدث كشف الكثير من جوانب القصور. وعندما نتحدث عن جوانب القصور تلك فإني أتحدث وأقارنها بالأفضل والأمثل من الأسواق المالية والهياكل الاقتصادية المتقدمة وليس بالجوار أو بمن دون مستوى أسواقنا. ونقدنا يهدف إلى الوصول إلى الكمال ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وليس لجلد الذات كما يعتقد البعض. وعليه فإن محاور ومرتكزات أسواق المال والقطاع الاقتصادي عموماً بالمفهوم الحديث للاقتصادات المفتوحة يجب توافرها حتى يمكن إدارتها بشكل سهل ومقبول للمجتمع، وإلا كانت الضريبة عالية والنتيجة معروفة مسبقا. وهو أمر لا يحتاج إلى أن تكون لدينا إيرادات عالية حتى يتم تنفيذه، فهو أمر طبق في دول ليس لديها برميل نفط واحد للتصدير.
وعلى كل فإن مما يحسب بشكل ممتاز للاقتصاد السعودي ومنذ نشأته أنه قام على مبدأ الحرية الكاملة والانفتاح على الآخر، وقد كانت تلك الفلسفة سابقة لزمانها وفي وقت كانت القوميات العربية وغير العربية تعمل على التأميم وعلى الفكر الاشتراكي، الذي أرجع الأمة إلى الوراء 100 عام. كانت المملكة في طليعة الاقتصادات الناشئة المنفتحة على الفكر الاقتصادي الحر والتخصيص رغم كل الصعاب والنقص الحاد في مكونات هذا الاقتصاد الناشئ، وكان على رأس تلك النواقص رأس المال البشري والاجتماعي القادر على إدارة ذلك التوجه. ولكن الرؤية كانت قوية وعازمة، وبالتالي تصبح النتيجة تحصيل حاصل. وهو الأمر الذي ننعم به اليوم في المملكة.
المقدمة السابقة كان لا بد منها للقول إننا نعيش في مرحلة مفصلية وحادة. إما أن نكون أو لا نكون، إما أن نجني ثمار فلسفة الاقتصاد الحر من خلال إدارة واعية وإما أن نتراجع بسبب الضغوط الاجتماعية المتزايدة من خلال مفاهيم الرعاية والأبوية وما شابهها، وهو الأمر الذي نشاهده يقتل يومياً العديد من مبادرات التطوير الاقتصادي في العديد من الدول العربية، وعلى رأسها مصر التي كانت في يوم من الأيام رائدة في الكثير من التوجهات الاقتصادية، بحيث إن من يزورها اليوم يستطيع أن يعرف الحقيقة المُرة أن المشكلة أصبحت إدارة مجتمع وليست إدارة اقتصاد الذي يعتبر إفرازا لتركيبة مجتمعية معينة مربوطة بفلسفة سياسية وهيكل سياسي معين، إما أن يكون معُينا على التطوير والتحديث أو معوقا له.
إن إدارة المجتمعات المفتوحة المتعلمة اقتصاديا أصعب من إدارة الجيوش المبرمجة، والأصعب من ذلك إدارة الجموع شبه المتعلمة وقليلة المعرفة وفي الوقت نفسه تصبح أداة ضغط على متخذ القرارين الاقتصادي والسياسي، هذا باختصار عنوان المرحلة. والمملكة سعت، كما قلنا، منذ البداية وتطلعت إلى أن تكون في مصاف الدول المتقدمة وليست المتأخرة أو المتراجعة، وهذا التوجه كان عنوان جميع المراحل السابقة، مع ضرورة تذكر عنصر رئيس أن المراحل السابقة ومنذ الخطة الخمسية الأولى ونحن الآن نعيش في الخطة الثامنة (40 سنة)، كان العنصر البشري والاجتماعي الضاغط على محركات السياسة الاقتصادية غائبا كفاعل، ولكنه كان موجودا كهدف في تلك الخطط. وهناك فرق بين وجوده كفاعل بشكل مباشر وعنصر ضغط، وبين كونه عنصرا في التخطيط فقط يخُطط له من قبل الصفوة ومتخذي القرار. وللتدليل على تلك الحقيقة فإن هبوط سوق المال منذ 25 شباط (فبراير) 2006م، كان مزلزلا قويا لسبب بسيط وهو وجود الأعداد الكبيرة من المستثمرين الأفراد الذين دخل معظمهم في 2005 (شكلت كل شرائح المجتمع)، رغم أن السوق مرت منذ تاريخ إنشائها في 1985 بتراجعات كبيرة كان آخرها في عام 1998م، ولم تشكل ضغطا قويا على متخذ القرار السياسي بسبب محدودية أعداد المستثمرين في ذلك الوقت، حيث أصبح العديد من الدراسات تتحدث عن حقيقة وجود خلل في إعادة توزيع الثروة من القاعدة الأوسع إلى قاعدة الأضيق. وهو أمر له تداعيات سياسية وأمنية معروفة، أولها وأهمها، من وجهه نظري، أن ما حدث أثار سؤالا يجب التعامل معه وإيجاد إجابة واضحة عنه، وكذلك وضع الحلول لتجاوز تلك الحالة. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: ما مدى قدرة المجتمع بجميع مكوناته على توفير الأمن الاستثماري بعدالة وحرية كاملة؟ ولاحظوا أن العدالة قبل الحرية. هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الأسبوع المقبل، إن شاء الله.