هارفارد السعودية .. مع وقف التنفيذ
يختزل الكثير من أصحاب الرأي المشكلة الرئيسية للتعليم العالي في المملكة في أن مخرجات التعليم العالي لا تتوافق مع سوق العمل. وأعتقد أن هذا التصور للمشكلة بدأ ترويجه بشكل متزامن مع بداية التوجه لسعودة قطاع العمل. ولا أنكر أن هذه القضية هي أحد جوانب مشكلة التعليم العالي ولكنها ليست المشكلة الأساسية لها. والسبب في ذلك أن النظرة للتعليم العالي يجب أن تكون أشمل من إعداد الأفراد للعمل فقط. فالتعليم العالي هو وسيلة للبناء المعرفي للمجتمع واللازم للبناء الحضاري المستقبلي.
إنني أخشى أن يؤدي التركيز على قضية مخرجات التعليم، وهي قضية أساسية، إلى إخراج التعليم العالي من مهمته الأساسية، وهي أن تكون الجامعات مركزاً للإلهام المعرفي والحضاري، ومركزاً للإشعاع والإبداع المعرفي، ورحماً للأفكار الخلاقة والمبدعة. بمعنى أن التركيز يجب أن يكون على تأدية الجامعات وظيفتها الأساسية بشكل أفضل. والوظيفة الأساسية للجامعات ليست التعليم والتأهيل فقط، إنما الوظيفة الأساسية هي البحث العلمي. فالجامعات العريقة عندما تأسست لم تكن للعامة ولكن كانت للنخبة العلمية فقط. وعضوية التدريس في الجامعات الأوروبية في عصر النهضة أو عضوية الجمعيات الملكية العلمية كانت كالحصول على منصب وزاري في وقتنا الحاضر. وخيارنا الأفضل في الوقت الحاضر هو التركيز على البحث العلمي التطبيقي لأنه الأقرب إلى الواقع، ولأنه سيؤدي بشكل أساسي إلى الارتقاء بالعملية التعليمية، والخروج بها من الوضع المأساوي لها, لكن كيف سيتم ذلك؟ والجامعات العريقة في العالم تتمايز بالإنتاج المعرفي لها، وبتميز الطلبة المتخرجين فيها وليس بعددهم. وهذا يؤدي إلى تدفق الموارد إلى هذه الجامعات من قبل الشركات بمختلف مجالاتها، مما يؤدي إلى إثراء البحث العلمي في هذه الجامعات من جهة، ويؤدي إلى حرص هذه الجامعات على استقطاب الكفاءات العلمية سواء على مستوى أعضاء الهيئات التدريسية في هذه الجامعات أو على مستوى الباحثين من طلبة الماجستير والدكتوراة من جهة أخرى، فهؤلاء يمثلون دعماً لا غنى للجامعات عنه على عكس وضعهم في جامعاتنا. فطلبة الدراسات العليا في الجامعات السعودية يعدون عبئاً تدريسياً على أعضاء هيئة التدريس. أضف إلى ذلك أنه نتيجة لأن الجامعات تحاول بناء سمعة جيدة لها للحصول على دعم أكبر للبحث العلمي فيها فإنها ستسعى إلى قبول أفضل الطلبة، وذلك لأن هؤلاء سيكونون رافداً معنوياً ومادياً لها في حالة تفوقهم في المستقبل. لذلك تلاحظ في هذه الجامعات أن الجو التعليمي مشحون بالمنافسة والتحدي. وهذا يؤدي بدوره إلى إخراج أجيال مبدعة وأفكار خلاقة.
والارتقاء بالبحث العلمي في الجامعات سيؤدي في النهاية إلى مواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل بشكل تلقائي. لأن متطلبات سوق العمل ليست بالشيء الصعب أو المستحيل الحصول عليه. بمعنى أن ما يحصل عليه الطالب من معرفة علمية في حقل من الحقول يفوق بشكل كبير ما يحتاج إليه في العمل. لكن المشكلة الأساسية التي يعانيها القطاع الخاص مع الخريج السعودي تعود إلى أن العملية التعليمية في الجامعات غير قادرة على إثراء التفكير الإبداعي لدى الطالب. فهي تركز فقط على تدريسه المناهج المقررة واختباره فيها دون اختبار وتحفيز قدراته الإبداعية في التعامل مع حالات مختلفة من الواقع. وتحفيز الحس الإبداعي لدى الطلبة لن يتم ما دام أعضاء هيئة التدريس أنفسهم يفتقدون ذلك. بمعنى أن البحث العلمي يؤدي إلى إثراء عضو هيئة التدريس علمياً وينعكس على الطريقة التي يتناول بها المنهج الدراسي خلال قيامه بعملية التدريس. وتدهور مستوى البحث العلمي في الجامعات يرجع أولاً إلى أنه لا يمثل قيمة مضافة إلى عضو هيئة التدريس، وثانياً إلى انعدام الدعم له من قبل القطاع الخاص أو العام على حد سواء. بمعنى أن هناك حلقة مفقودة بين الباحثين وبين الداعمين المفترضين للبحث العلمي.
إنني أتفق مع فواز الفواز في مقاله المنشور الإثنين الماضي في أن النظرة إلى التعليم العالي يجب ألا تكون شمولية, بمعنى أننا يجب أن نركز على الارتقاء بالمستوى العلمي للجامعات وبالمستوى المعرفي للطالب الجامعي . ولا نتوقع أن يتم ذلك ما دام عدد الطلبة المقبولين حالياً في الجامعات يفوق طاقاتها الاستيعابية. بمعنى أن العمل يجب أن يرتكز على إعطاء الجامعات الحرية في إدارة أمورها المالية والإدارية وتحديد أولوياتها مع ربط الدعم المالي لها بإنجازاتها في مجال البحث العلمي. والجامعات الأكثر إنتاجاً في مجال البحث العلمي ستكون الأكثر جذباً للدعم من القطاعين الخاص والعام, ومن ثم ستسعى إلى جذب أفضل الباحثين وأفضل الطلبة، وكنتيجة نهائية سيكون معدل توظيف خريجيها الأعلى، ومعدل دخول أعضاء هيئة التدريس فيها الأعلى، والبقاء للأفضل.