حين يكف الكون عن الدوران
لم تكن صديقة نزار قباني كاذبة وهي تعاتبه بغضب قائلة على لسانه:
"شؤون صغيرة
تمر عليها بدون التفات
تساوي لديّ حياتي"
بل إنها لم تكن أكثر منها صدقا إلا وهي تبدي لحبيبها مدى شغفها وتعلقها بشؤونها الصغيرة التي لم تكن تعني لهذا الحبيب الشيء الكثير.
هذا التعلق العاطفي لحبيبة نزار بشؤونها الصغيرة التي تساوي لديها حياتها، ليس حالة استثنائية، وإنما يكاد يكون القاعدة التي تحكم تعلق مختلف أنواع البشر باهتماماتهم، فالشؤون الصغيرة من منظورنا هي شؤون كبيرة جدا جدا من منظور غيرنا.
لا بد أن مرات عديدة جمعتك بصحبة أو معشر من القوم توحد بينهم مهنة بعينها أو هواية أو وظيفة أو مجال عمل من النوع نفسه وظل الحديث يستأثر كله بموضوع تخصصهم أو هوايتهم أو مجال عملهم.. نجد الأطباء، المهندسين، المعلمين، الأكاديميين، الإعلاميين، الأدباء، رجال الأعمال، المصرفيين، العسكر، الرياضيين، المطربين، والتشكيليين، وما شئت من أهل أصناف الأعمال والاهتمامات، كل طائفة من هؤلاء في حالة استقطاب نوعي لمجال عملهم واهتمامهم، المصطلحات، الألقاب، الأوصاف، والعبارات تكاد تكون غيرها لدى آخرين ممن يختلفون عنهم في الاهتمام.
على أن ظاهرة الحماس و"التعصب" لأهمية المجال تبقى القاسم المشترك بين الجميع، وما قد نراه نحن "شؤونا صغيرة" يعتبره غيرنا "شؤونا كبيرة"، فهم يرون أن الكون بدونهم يمكن أن يكف عن الدوران وربما يرتبك الليل والنهار، تتعطل مصالح الناس، تعجز الشوارع والطرق عن أن تؤدي وظائفها. ولا يصبح للأوقات طعم ولا للأمكنة رونقها. يوحي حديث أصحاب المهنة الواحدة وكأن مهنتهم أم المهن، جوهرة الأعمال، روح الإبداع والابتكار ومقدمة ونهاية مطاف كل إنجاز.
تثير دهشتك قدرتهم على اختصار العالم بهم وقناعتهم الراسخة بأن أي تهاون في الوقوف إلى جانبهم ومعاضدتهم في كل صغيرة أو كبيرة يطالبون بها يعتبر خطرا ماحقا يهدد استقامة العمل العام برمته، ويجعل التطور والتقدم والحداثة في عداد المستحيل!!
قد لا يقول أصحاب المهنة الواحدة ذلك.. وهم وإن كانوا يوافقوننا على أن أعمالنا واهتماماتنا ذات جدوى ومهمة أيضا، إلا أنهم لا يمنحوننا في الغالب الأعم الحماس والعاطفة المشبوبة ذاتها ولا الاستعداد للدعم والمعاضدة على نحو يقارب ولو بنسبة أدنى بكثير اندفاعهم نحو مجالهم؛ إنهم ينساقون معنا فقط كما ننساق معهم من باب اللياقة الاجتماعية .. فهل هذا خلل في بنية العلاقات الاجتماعية في عالمنا أم هو صفة كونية تتسم بها كل الأمم والشعوب؟
أعتقد أن "الانحياز" إلى المهنة والاهتمام يعتبر أمرا طبيعيا، فهو الوقود المحرك لها والطاقة الدافعة لتحققها بأجمل وأروع صورة، وهي خصيصة نجدها أثيرة جدا لدى جمهور الدول المتقدمة, غير أن هذا "الانحياز" عندهم إلى مهنهم ظل مفتاح فهم وتعاطف مع انحيازات الآخرين، وهذا الانحياز المتبادل بين أصحاب المهن والاهتمام ناجم في الأساس عن تربية ديمقراطية كرست مفهوم: لا أحد أفضل من أحد، والكل له الأهمية ذاتها. ولذا نشأت الروابط والنقابات والجمعيات المهنية في ضوء تكريس الخاص للعام والعكس ليس صحيحا، فالخبرة والتجربة منحتهم درسا حفظوه عن ظهر قلب وعن قلب عقل مفاده أن الامتياز هو للدور الاجتماعي للمهنة وليس للقائمين بها أو عليها، وأن سد الطريق على مزاعم سيادة مهنة أو اهتمام مهما كان على سائر المهن هو السبيل الوحيد والإنساني لأن تصبح كل المهن والاهتمامات لها ذات السيادة وبالتالي يصبح للناس كلهم الأهمية ذاتها، أي أن "الشؤون الصغيرة" هي "شؤون كبيرة" متى ما تجاوزنا غرورنا الذاتي أو عماءنا المصلحي وأجبرنا أنفسنا على أن تحترم "الأنا" مكان الـ "هي" أو الـ "هو" وتتبادل الزيارة معهما، فذلكم أول درس في ممارسة الديمقراطية وما بعدها تفاصيل.