قراءة في زيارة الرئيس بوتن للمملكة
في بداية التسعينيات الميلادية سقط الاتحاد السوفياتي وتشرذم وتفكك الاتحاد ليعود الكثير من الجمهوريات المكونة له مستقلة متحررة من الهيمنة المطلقة التي كانت تطبق على أنفاس جميع الناس. وما من شك أن أسباب السقوط يمكن إجمالها في فساد الأيديولوجية التي اعتمد عليها الاتحاد السوفياتي التي تم بناءً عليها تأميم جميع مرافق ومناشط الحياة الصناعية, الزراعية, والتجارية ولم يعد هناك من مجال للتملك الفردي، ما أفقد الناس الدافعية للعمل وأفقدهم شحنة الحوافز الأساسية والمهمة لأي سلوك بشري, إذ لا يمكن تصور فرد يحرم من إشباع غريزة التملك وينجز إنجازاً مناسباً. كما يضاف إلى العوامل التي أسهمت في سقوط الاتحاد السوفياتي, الوقوع في فخ سباق التسلح والتورط في حرب أفغانستان, ما كلف الاقتصاد الروسي الكثير, وحوله إلى ما يشبه هيكل الدولة.
وبعد السقوط المريع والتفكك السريع ورثت روسيا تركة ضخمة في جميع المجالات الاقتصادية, السياسية, الصناعية, والاجتماعية. واتضحت معالم هذا الإرث الثقيل في حالة الفراغ الذي حدث بسبب غياب الاتحاد السوفياتي عن الساحة الدولية وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالقرار الدولي وفرضها سياساتها مستغلة حالة القطبية في السياسة الدولية التي سنحت لها ومكنتها من فرض إرادتها واستغلالها الظروف أبشع استغلال من خلال الحروب والتهديد والوعيد.
ومع حالة الهيمنة الشرسة والاستغلال البشع الذي مارسته الولايات المتحدة على الصعيد الدولي أصبح الناس وفي كل المجتمعات يتطلعون إلى حالة الثنائية القطبية أو المتعددة الأقطاب بغرض تحقيق سياسة الردع التي كانت قائمة أثناء وجود الاتحاد السوفياتي.
وتأتي زيارة الرئيس بوتن للمملكة, إضافة إلى قطر والأردن بعد زيارة قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله عام 2003 لروسيا، وسعياً من روسيا وقيادتها إلى العودة مرة أخرى وبروح أكثر قوة من ذي قبل إلى الميدان الدولي بهدف استعادة مكانتها السابقة, أو على أقل تقدير جزء منها. وإذا كانت هذه الزيارة قد جاءت في ظرف معقد وصعب تمر به المنطقتان العربية والإسلامية كما هو الحال في فلسطين, العراق, أفغانستان, الصومال, والسودان, إلا أن ثقل المملكة ووزنها الاقتصادي والسياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي يجعلها المحطة الأولى في هذه الزيارة ومحل اهتمام السياسيين والمحللين، ذلك أن ما يترتب على هذه الزيارة من نتائج سيعود بالفائدة ليس على المملكة فحسب، بل على المنطقة المضطربة بفعل السياسات الأمريكية والإسرائيلية المدمرة. إن الرغبة في تحقيق نتائج ملموسة من هذه الزيارة هي رغبة مشتركة من قيادتي البلدين المملكة وروسيا, ولكي تتحول هذه الرغبة إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع لا بد من برامج عمل وقرارات يمكن تنفيذها, ولعل أول بوادر الإصرار على النجاح توقيع اتفاقيات اقتصادية وإعلامية وثقافية, كما أن التقاء الرئيس بوتن رجال الأعمال السعوديين والمصارحة التي تمت بشأن العوائق الإدارية والبيروقراطية في الجانب الروسي والوعد الذي أعطاه بوتن لتذليل الصعوبات تؤكد الهمة في تحويل الرغبة في النجاح إلى فعل وعمل ملموسين.
وكما هو الحال في العلاقات الدولية لكل طرف أجندته الخاصة به, التي تحكمها ظروف داخلية وخارجية وأوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية ستكون نتائج هذه الزيارة مرهونة بمجموعة من الحقائق, أولاها أن روسيا جغرافياً تعتبر دولة شرقية في معظمها عدا ما وراء جبال الأورال غرباً لكنها من حيث الانتماء السياسي والروحي فهي تعتبر نفسها غربية, ولذا فلا غرابة أن يتكرر الحديث من قبل المسؤولين الروس عن الشركاء الأوروبيين والأمريكيين ما يعني الميل الشعوري أو اللاشعوري إلى الكتلة الغربية, إن هذا لا يعني أن مكونات الشعب الروسي وثقافته غربية بل إن الحقائق تقول إن روسيا فيها أكثر من 30 مليون مسلم وفيها جمهوريات إسلامية كما في حالة تتارستان والشيشان, وجزء مهم من الثقافة الروسية تأثر بالثقافة الإسلامية والعربية, لكن أثر الحقبة السوفياتية لا يمكن إنكاره, إذ إن تلك الحقبة أحدثت الكثير من التغيرات الاجتماعية والنفسية وظهرت معالم هذا الأثر على سلوك الأفراد وتصرفاتهم، ما أفقدهم روح المبادرة وبطء السلوك والتردد والضعف والترهل والفساد الإداري, وهذا يفسر لنا تأخر روسيا في انفتاحها على جيرانها العرب والمسلمين وضعف أدائها على الصعيد الدولي, بل إنها, كما أعتقد, تكتفي بكثير من القول وقليل من الفعل رغم أن إمكانية إحداث توازن في قرارات الهيئات الدولية ممكن كما في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن, فحق الفيتو يمكن أن يعيد لها شيئاً من اعتبارها وقوتها ويحدث الثقة بها من قبل الأطراف الأخرى, خاصة أن بعض القضايا واضحة أشد الوضوح كما في حالة غزو العراق وكما في فلسطين ودارفور, لكن الإرث السلبي الذي ورثته روسيا لا يزال يحدث أثره في السياسة الروسية ويجعلها في حالة تردد.
وإذا كانت الورقة السياسية لروسيا بهذه القوة فهي من الناحية العسكرية ليست بذلك الضعف حيث إنها تمتلك من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير العالم بكامله, وهذه القوة كافية لإحداث شيء من التوازن في العلاقات الدولية, إذ إنها ليست ضعيفة عسكرياً بالقدر الذي يغيبها عن الساحة الدولية.
ومع إدراكي ضعف الاقتصاد الروسي في المرحلة الراهنة إلا أن معرفتنا بأن روسيا تعتبر ثالث منتج للنفط في العالم وأول منتج للغاز, يؤكد حقيقة توافر مؤهلات القوة العظمى في العالم التي يمكنها أن تشكل قطباً من الأقطاب الفاعلة والمؤثرة بشكل واضح في السياسة الدولية, خاصة إذا تفاعلت والتقت مع البلدان الإسلامية والعربية المؤثرة كالمملكة على سبيل المثال, والتي يتوافر لها من عناصر القوة الكثير, وأول هذه العناصر كونها مهبط الوحي وموئل الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين في كل أنحاء العالم وكفى بهذا العنصر قوة يمكن توظيفها في وجه أي قوة معتدية متخطية لحدودها, كما أن القوة الاقتصادية ودورها في إنتاج النفط والتحكم في أسعاره يعطيها قوة إضافية تسهم في جعل أي شراكة معها شراكة ناجحة سياسياً واقتصادياً.
حيث إننا أمام تغيرات وتحديات دولية صعبة ولا يمكن التنبؤ بها أو بوقت حدوثها ولا بآثارها التي قد تكون مدمرة, لا سمح الله, لذا فإن العمل على نجاح زيارة بوتن وتفعيل الاتفاقيات التي وقعت يعتبر خطوة أساسية لاستثمار كل الأوراق وتفعيلها في الظرف والوقت المناسبين بدلاً من الارتهان لطرف لا يهمه سوى مصالحه الذاتية دونما أي اعتبار لمصالح الآخرين وثقافتهم وقيمهم ومبادئهم. إن روسيا والمملكة كل واحدة منهما بحاجة إلى الأخرى, إضافة إلى القوى الأخرى في العالم, لذا أرى أن من أسباب النجاح المستقبلي التقارب الثقافي والفكري وذلك من خلال المحاضرات المتبادلة والندوات المشتركة ذات الطابع السياسي والثقافي, إضافة إلى البعثات الدراسية التي من الممكن أن توفرها المملكة للطلاب الروس, خاصة الراغبين في الدراسات العربية والإسلامية أو الطلاب السعوديين الذين يمكن إيفادهم للدراسة في روسيا في جامعات ومعاهد عليا منتقاة لها سمعتها وقيمتها العلمية على الصعيد العالمي.
إن وصف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بوتن بأنه رجل دولة وسلام وعدل وحق يجعلنا نحن أبناء المنطقة نتطلع إلى دور روسي أكبر على الصعيد الدولي يتم من خلاله مناصرة القضايا العادلة كي تعاد الحقوق لأصحابها ويوقف المعتدي عند حده.. فهل ستقوم روسيا بما يتطلع إليه العالم منها؟