رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


التضخم: كفاية ضغطك علينا!!

[email protected]

الاقتصاد هو عصب الحياة، دعك مما عداه! فالناس في كل مكان تهتم أولا بما يؤثر في مستوى معيشتهم حتى وإن بدا أن لهم اهتمامات أخرى، سياسية كانت أم اجتماعية، أو حتى ترفيهية (كالسياحة والرياضة مثلا). ومع ذلك، فإن كل هذه الاهتمامات تنتهي في آخر المطاف لتصب في الجانب الاقتصادي بشكل أو بآخر. نعم ما يهم الناس في أي مكان وفي كل زمان هو مستوى معيشتهم سواء تعلق هذا المستوى بما يؤثر في دخولهم ( رواتبهم) أو ثرواتهم ( العوائد التي يجنونها من أصولهم العينية كالعقار أو أصولهم المالية كالأسهم) أو ما يحصلون عليه من خدمات مختلفة سواء كانت بحكم الجنسية أو الإقامة.
والناس في مجتمعنا يواجهون، كأي مجتمع آخر في الدنيا، تحديات ومشكلات اقتصادية تختلف من حيث نوعها وحدتها من وقت إلى آخر. وواجه الناس في مجتمعنا في السنوات الأخيرة جملة من التحديات الاقتصادية أخطرها وأكثرها إلحاحا ما يتعلق بحاجاتهم الأساسية، كتفشي البطالة بين الجيل الجديد من الشباب والشابات، وعدم استطاعة بعضهم الحصول على فرص في التعليم العالي. أو ما يكابده الناس أيضا من تخلف قطاع الإسكان تشييدا وتمويلا، فهو أيضا من الحاجات الضرورية. إذ إن هناك قصورا في العرض الكلي من المساكن وغيابا شبه كلي لبرامج تمويل شرائها، في ظل تصاعد الطلب مع النمو السكاني. هذا فضلا عن قصور الخدمات البلدية وخدمات المنافع العامة كالماء والصرف الصحي. لكن ابتداء من العام الماضي، حل بالناس مأساتان إضافيتان: نكبة سوق الأسهم التي التهمت مدخراتهم، والارتفاع الكبير في مستوى أسعار عديد من السلع والخدمات، الذي وصل في بعضها إلى الضعف!
هذه في تصوري هي أهم المشكلات الاقتصادية التي تواجه الناس في مجتمعنا الآن. وهو تصور مبني على المشاهدة والملاحظة الشخصية. ولعل جريدتنا "الاقتصادية" تجد في تبني إجراء استفتاء موضوعي على موقعها الإلكتروني عما يعتقد الناس أنه أهم التحديات الاقتصادية التي يواجهونها، فكرة مفيدة وجيدة. ومثل هذه الاستفتاءات هي مما يتبناها ويرعاها كثير من الصحف المتخصصة في وسائل الإعلام المعاصرة خدمة للقراء والمجتمع. وفي ظني أنها فكرة ستحظى بتجاوب واسع من جمهور القراء، كما أنها ستمد من يهمه الأمر من المسؤولين بمعلومة ومؤشرات اقتصادية مهمة ودقيقة.
أما مأساة سوق الأسهم التي أدت إلى ضياع مدخرات شريحة واسعة من المواطنين، وترتب عليها تخريب شديد لشكل توزيع الدخول والثروات في مجتمعنا، فقد كتبت وكتب غيري عنها مرارا, لأنها ولدت لدى المراقبين الاقتصاديين مخاوف كبيرة من احتمال تناقص حجم الطبقة الوسطى في المجتمع بشكل حاد، وتحول هيكل المجتمع إلى شريحتين فقط فقيرة وغنية. وغني عن البيان أن المفاسد الاقتصادية والاجتماعية التي ستنجم عن هذا التخريب جسيمة ومزعجة! وقد بدأنا نسمع ونرى ليس فقط عن آثارها السلبية من الناحية الاقتصادية وإنما أيضا آثارها الاجتماعية والأخلاقية أيضا.
أما وقد وقعت هذه المأساة وليس في الأفق ما يدل على مراجعة أسبابها ومحاكمة روادها ولا كشف الغامض من أسرارها، فلعلنا على الأقل نركز على مشكلة تضخم الأسعار وكيفية مواجهة هذا المارد الجديد، نظرا لما له من آثار قاسية ستضاعف من جراح الناس الاقتصادية وتعصف بما تبقت من قدراتهم المعاشية. إنها مسألة تستحق عناية بالغة من مخططي سياساتنا الاقتصادية: المالية منها والنقدية. ففضلا عن أثر التضخم الضار في مستوى معيشة الناس، فإنه يؤدى أيضا إلى اختلال في ميزان العدالة بين الدائن والمدين، وإلى التشويش على قرارات الادخار والاستثمار، مما يدفع إلى إيجاد حالة يتفادى فيها الناس الدخول في التزامات طويلة الأجل.
لكن إذا كان ارتفاع أسعار النفط قد أدى إلى ارتفاع تكاليف المنتجات المصدرة إلينا وزيادة تكاليف الشحن، ما حدا ببعض المصدرين إلى ممارسة سياسة التمييز السعري Price Discrimination الذي يدفعهم إلى رفع أسعار السلع المصدرة للسعوديين لاعتقادهم أننا أقدر من غيرنا على تحمل الأسعار الأعلى، فإنه يحسن بالمسؤولين عن اقتصادنا حماية عامة الناس بسياسات اقتصادية مناسبة تعمل على تخفيف وطأة هذا الضرر البالغ، حتى وإن تطلب الأمر استخدام عوائد النفط كأداة في هذه المواجهة، طالما أنها سبب مباشر في المشكلة. ومن السياسات التي تتبع أحيانا في هذه الأحوال، سياسة الربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة، حماية لفئات المجتمع المرتبطة بدخول محدودة، لأنها الفئة الأفدح تضررا من ظاهرة التضخم.
لكني أود التذكير، في الوقت نفسه، بأن السياسات الاقتصادية الحصيفة لا تبنى على العواطف، وإنما على الدراية العلمية بالسياسات المناسبة والتعامل بواقعية عند التصدي لمثل هذه الظواهر الاقتصادية. فإذا أردنا أن نتبنى حلا ما فيجب أن يكون حلاًّ قابلاً للتطبيق بتكاليف يسيرة، لأنه وإن ظهر أنه يحقق العدل في صيغته النظرية، فقد لا يكون صالحاً لتحقيق مقتضيات العدالة عند التطبيق إذا كانت تترتب على ذلك تكاليف باهظة. فاقتراح اللجوء إلى القضاء والمحاكم مثلا كوسيلة لحل مشكلة تدهور القوة الشرائية للنقود بين المنخرطين في عقود تتمخض عنها التزامات مالية متراخية في الزمن، هو اقتراح غير سديد من الناحية التطبيقية. ذلك أن مراجعة المحاكم وملاحقة القضايا من خلال المحامين والجهات القضائية والتنفيذية تجعل البديل الآخر، وهو تحمل ضرر التدهور في القوة الشرائية للنقود، في أكثر الأحوال، أقل تكلفة.
كذلك يجب أن يكون الحل قابلاً للتنفيذ، في الحالات العادية، من قبل المتعاقدين أنفسهم بصورة ميسرة ومباشرة متى حصل الرضا بينهم على تطبيقه. وعلى ذلك فإن الاقتراحات التي تحتاج إلى تدخل الجهات التنفيذية (كالشرطة) ليست حلولاً عملية ولا تنهض بالحاجة إلى علاج مشكلة تدهور القوة الشرائية للنقود في العلاقات التي تولد حقوقاً والتزامات مالية في المستقبل.
المهم هو أنه لا ينبغي ترك عامة الناس يواجهون غوائل الغلاء وحدهم وهم أساس المجتمع وكيانه. فإن حدث وعجزنا عن صياغة حل ما، فلنضع خبزنا على مائدة واحدة لنتقاسمه جميعا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي