الوظيفة الحكومية بين مفهوم الضمان الاجتماعي والإنتاجية
أعود مرة أخرى للتطرق إلى قطاع العمل، الذي يعد العصب الرئيسي للاقتصاد في أي دولة. وموضوع اليوم يتعلق تحديداً في قطاع العمل الحكومي ومشاكله من منظور اقتصادي. وبمعنى آخر يتعلق بأثر الأنظمة الوظيفية على القرارات الاقتصادية للموظف، ومن ثم على الاقتصاد ككل. فالطريقة التي تصاغ بها الأنظمة في قطاع العمل الحكومي تؤثر في خيارات الفرد الاقتصادية من جهة، من حيث العمل والإنتاجية في مقابل العوائد المادية المتحصلة من ذلك، وتؤثر في أداء الاقتصاد الكلي من جهة أخرى. ومن ثم فإن دراسة هذه التأثيرات المختلفة وفهمها يساعد على صياغة هذه الأنظمة بشكل يحقق الأداء الأفضل للاقتصاد.
أول هذه الجوانب التأثير على خيارات الفرد بين العمل أو بين البطالة المقنعة. فالفرد، ومن وجهة نظر اقتصادية، يتصرف بطريقة يعظم فيها منافعه الحالية والمستقبلية. وعلى هذا الأساس فإن الطريقة التي تصاغ بها الأنظمة الوظيفية ستؤثر في خياراته الحالية والمستقبلية على حد سواء. والخيارات الحالية غالباً ما تبنى على التوقعات والتطلعات المستقبلية. فإذا كان المستقبل الوظيفي مرتبطا بالإنتاج الحالي فإن الفرد سيعمل ما في وسعه للوصول إلى الهدف المستقبلي الذي رسمه لنفسه. بمعنى آخر، أن الفرد سيسخر الحاضر في خدمة المستقبل. والسؤال الذي يطرح هنا، هل الواقع الوظيفي في قطاع العمل الحكومي يدعم هذا الجانب؟ وهل النظام الوظيفي يحفز الموظف للعمل بجد واجتهاد للحصول على المزايا المستقبلية للوظيفة مثل العلاوة أو الترقية؟
واقعياً فإن المزايا الوظيفية في نظام الخدمة المدنية لا ترتبط من قريب أو بعيد بإنتاجية الفرد. بل إن أغلب المزايا الوظيفية ترتبط بمسألة الوقت فقط. فالترقية تتطلب مرور أربع سنوات، والعلاوة تستحق خلال سنة، والتقاعد المبكر يستحق بعد مرور 20 عاماً في الخدمة، والفصل من الوظيفة يتم بعد غياب 14 يوماً متواصلة أو 30 يوماً متفرقة خلال العام. وكل هذه الأمور لا ترتبط بإنتاجية الموظف ولا تساعد على زيادة إنتاجيته، بل إنها ترتبط بالوقت فقط. مما يجعل الالتفاف على هذه القواعد سهلاً ويؤدي إلى استفادة ضعاف النفوس من هذه المزايا كما أنها تجعل حضور الموظف بشكل يومي كفيلاً بامتلاكه الوظيفة سواء عمل أم لم يعمل. والواقع الحالي يؤكد أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يتخذون من الوظيفة الحكومية ضمانة اجتماعية فقط للأيام السوداء.
ثاني هذه الجوانب التأثير على الإنتاجية في القطاع الحكومي. فالتأثير السلبي على الطريقة التي ينظر بها الموظف إلى الوظيفة الحكومية وطريقة الالتفاف على الأنظمة الحكومية تجعل منه شخصا لا مسؤول وغير مهتم بما يجري في الدائرة الحكومية، مما يؤدي إلى ضعف المدير في مواجهة موظفيه ومن ثم ضعف واضح في الإنتاجية والأداء الحكومي وعلى جميع المستويات، هذا باستثناء الجهات التي تكفل لموظفيها انتدابا سنوياً أو بدل خارج دوام. فبحكم أن في يد المسؤول في هذه الجهات صلاحية حرمان الموظف من خارج الدوام أو الانتداب، فإنك تجد جانب الالتزام فيها أكثر من غيرها. والمشكلة لا تقتصر على التأثير السلبي على الشخص نفسه، وإنما تتعداها إلى التأثير المعنوي سلباً على الأشخاص الآخرين الذين لديهم الرغبة في العمل بشكل جدي. فهذا المسكين الذي يعمل بكل إخلاص سيجد نفسه عند حلول موعد الترقية (المبارك) في منافسة مع هذا المستهتر الذي قد يحوز على الترقية فقط بسبب أنه أمضى في المرتبة مدة أكثر.
ثالث هذه الجوانب السلبية التأثير على خيارات المواطن بين العمل في القطاع الحكومي والقطاع الخاص. فالشاب وعند تخرجه يواجه بخيارين، وإما العمل في القطاع الخاص لساعات طويلة وبضمانات وظيفية ضعيفة أو العمل في وظيفة حكومية براتب أقل لكن بضمانات عالية لا تتوافر في أي مكان آخر. وبجانب ذلك يمكن لهذا الشاب العمل بشكل جزئي وتحقيق دخل إضافي. هذا التفاوت في المزايا يؤثر بشكل كبير في حافزية العمل في القطاع الخاص ويرسخ الكثير من المواقف السلبية تجاه الإنسان الجاد الراغب في التدرج في سلم الهرم الوظيفي سواء الحكومي أو الخاص. فالخيار بين الاثنين يعتمد بشكل كبير على العوائد المادية من كليهما، وإذا كان اختيار الوظيفة الحكومية (كضمان اجتماعي) سيؤدي إلى منافع أكثر من المنافع المتوقعة من العمل بشكل جدي في القطاع الخاص أو الحكومي، فإننا نكون قد وضعنا الإنسان الجاد والمجتهد في موقع الخاسر دائماً. والحل يكمن في إعادة صياغة الأنظمة الوظيفية بناء على مقاييس الإنتاجية والكفاءة، وزيادة مسؤوليات وواجبات الوظيفة الحكومية بشكل مماثل لما هو معمول به في القطاع الخاص، مع تحديد طرق كمية دقيقة يتم بها قياس إنتاجية القطاع الحكومي، لتكون محددة للحوافز الوظيفية من علاوات وترقيات على مستوى القطاع الحكومي ككل.
إننا في حاجة ماسة لإحداث ثورة في مجال الإدارة الحكومية وجعلها رافداً للاقتصاد لا عبئاً عليه، خصوصاً أن المملكة في مرحلة انفتاح على العالم من خلال عضويتها في منظمة التجارة العالمية، وليس هناك من سبيل إلى الارتقاء بالعمل الحكومي إلا بانعتاق الوظيفة الحكومية من مفهوم الضمان الاجتماعي، واستبداله بمفهوم الكفاءة والإنتاجية.