رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الطفل صالح وكثيرون

الطفل صالح الصقلاوي ذو السنوات الخمس جاء ماشيا هاشا باشا، في عينيه زغاريد البراءة ونشوة يفاعة الصبا، تمدد على السرير بوداعة المطمئن إلى أنه تحت أيد أمينة، كان المراد إجراء عملية لتسوس أسنانه. حقنوه بالمخدر كما لو كان فأر تجارب دون مبالاة أو إحساس بالمسؤولية، وإلا كيف ارتبك فعل التخدير وظل أنبوب الأوكسجين غير محكم لمدة طويلة انزلق فيها الطفل المسكين صالح من غيبوبة التخدير إلى غيبوبة ما بين الحياة والموت لأيام وهو ما زال في حالة "كوما" في المستشفى التخصصي؟!
موجع فادح هذا الاستهتار.. الطفل صالح ليس أول ضحايا جرائم الأخطاء الطبية، فكم ذا سمعنا وكم ذا قرأنا في صحفنا عن جزارة بشرية، فمن لا يلقى فيها حتفه، يخرج منها بعاهات مستديمة أو بآلام مبرحة يظل يعانيها العمر كله أو يعيش تحت قبضة المسكنات!!
لا أريد أن ألبس جلباب المحامي ولا أن أرتقي منبر الخطيب الواعظ لكي أستصرخ ضمائر الأطباء ومديري المستشفيات ومسؤولي الوزارة المعنية عن أمر هم الأدرى به. إني أجد استصراخ تلك الضمائر لا جدوى منه هنا، إذ يبدو أن على قلوب أقفالها .. وإلا كيف تتكرر الحالات وتتوالى باستمرار كما لو كانت مسلسلا أو برنامجا وثائقيا يذاع على الهواء "عن الأخطاء الطبية" من باب الطرائف والعجائب؟ أإلى هذا الحد هانت على بعض الأطباء ومسؤوليهم حياة الإنسان الذي كرمه الخالق على العالمين وجعل قاتل النفس كمن قتل الناس أجمعين؟
ماذا نقول لأبي صالح وأمثاله؟ تم التحقيق ومعرفة السبب والمتسبب؟ وأي عزاء في هذا حين يطحن الرعب قلوب أبي صالح وأسرته ويصعق الروع من يمرّون بمثل موقفه، هذا إذا لم تذبحهم المصيبة؟!
إن كانت التحقيقات في الحوادث السابقة لم تكفَّ يد أمثال طبيب صالح، فأي قيمة لمثل هذه التحقيقات؟ وكيف يبرئ مدير المستشفى ورئيس القسم والإدارات العليا ومسؤولو وزارة الصحة أنفسهم من استمرار تكرار هذه الحوادث المأساوية؟ بل كيف يثق الواحد منا حين يضطر إلى إجراء عملية من أي نوع بأن ليس بين الأطباء المحيطين به من هو على شاكلة طبيب الطفل صالح؟!
ليس المطلوب تحقيقا فحسب، وإنما غربلة للقوى الصحية العاملة في المستشفيات من أطباء، ممرضين، فنيين، مساعدين، مديرين، ومسؤولين، فثمة أطباء وممرضون لو خضعوا لإعادة فحص وامتحان لما اجتازوا مستويات بدائية في هذه المهنة العظيمة الخطيرة، هذا إذا لم يكونوا مندسين عليها! ومهما قالت وزارة الصحة بأنها تدقق في شهاداتهم، فالواقع الذي يعرفه الناس ويعانونه يؤكد وجود أطباء وممرضين خارج التأهيل المهني والعقلي أيضا، والشواهد كثيرة، دونكم خبط عشواء التشخيص والأدوية والتجريب في عباد الله، وفوقها جرائم الأخطاء الطبية، إلى جانب فوضى المواعيد والانتظار الدهري والاستغلال في افتعال طلبات التحاليل والأشعة وتمطيط الزيارات والفوترة التي لا ترحم!
أعرف أن المهمة صعبة والحمل ثقيل، لكني أعرف أن الدولة تضخ في مجال الخدمات الصحية أموالا طائلة وتمنح صلاحيات واسعة، وأن من حق المواطنين أن يطمئنوا إلى أنهم أمام طبيب كفؤ وليس سمكريا أو سباكا، وأن روشتة الدواء لا تفاجئنا بسم زعاف، لأن حضرة الطبيب لم يكلف نفسه بالفحص المفروض ولم يلق بالا لاحتمالات حساسية مرضاه لهذا الدواء أو ذاك.. فكم تجرع كثيرون غصة عاقبة دواء خاطئ؟!
قلبي معك ومع أسرتك يا أبا صالح .. ليتك كنت أخطأت الطريق إلى ذلك المستشفى أو ليت ذاك الطبيب المشؤوم كان غائبا ساعتها! لكان صالح الغض يملأ بصبيانيته زوايا البيت ويضيء بشقاوته أزقة الحارة. ليتك وليت غيرك كثيرين، ممن غافلهم طبيب بجلباب أسود بدلا من الأبيض، ذهبتم لمستشفيات أخرى وقابلتم أطباء آخرين؟ لكن ـ وهذا مخيف ـ كيف لكم أن تعرفوا أن هذا المستشفى الآخر وأن هذا الطبيب الآخر ليسا هما ذاك المستشفى وذاك الطبيب ما دام أن الجلابيب السوداء تتبختر في أكثر من مستشفى هنا وهناك؟!
قلبي معك ومع أسرتك يا أبا صالح وأعرف أن ليس في الكلمات من بلسم لك في محنتك لكنها حيلتي التي أستطيع، عسى أن يكون فيها بعض من تعاطف أخيك معك ومع أسرتك، وأجزم بتعاطف إخوانك، وأخواتك، أهل بلادك الطيبين من كل الأرجاء، والدعوات حارة بعاجل الشفاء لابننا صالح، والرحمة من أرحم الراحمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي