رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الخلـوة بالرجـال

[email protected]

حين نشر الكاتب المغربي محمد شكري روايته ذائعة الصيت "الخبز الحافي" أحدث صدمة في الذائقة الثقافية العربية وفي منهجية الكتابة المألوفة لدى الكتاب العرب. لأن شكري في "الخبز الحافي" تجرأ على حياته الخاصة وفضح مسلكياته الجنسية وعوالم صعلكته. قدم اعترافاته ومكاشفاته دون مواربة، وعلى نحو غير مسبوق من الكتاب والكاتبات في العالم العربي، ولعله بفعلته تلك يعد أول من علق جرس الأدب المكشوف وفتح الطريق في اختراق ما كان يعتبر من "التابوات" في الإبداع والتأليف العربي، وقد تكون جرأته تلك أحد الأسباب التي شجعت كاتبة عملاقة قديرة هي غادة السمان على نشر رسائل الحب المتبادلة بينها وبين الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني بكل ما حوته من بوح.
غير أن العرض الفضائحي الذي أقدم على نشره محمد شكري في "الخبز الحافي" لم يلطخ ولم يسئ (إن كان الأمر كذلك) سوى سمعة محمد شكري نفسه ولم يدن غيره فقط من قِبل من لم يروا في تلك الرواية إلا النشوز والشذوذ والتفسخ الأخلاقي فحسب.
وسواء كان الموقف من "الخبز الحافي" على هذا النحو أو كان متفهما حجة شكري بضرورة صدقية الإبداع وبأهمية البوح والمكاشفة دون تستر على الحقائق أو تزييف للوقائع، وسواء كنا مع شكري أو ضده، فالأمر مختلف تماما (على الأقل بالنسبة لي) مع كاتب آخر هو الدكتور سهيل إدريس في كتابه "ذكريات الأدب والحب ـ الجزء الأول".
لقد كان سهيل إدريس، وما زال، في أذهان العديد من القراء العرب قامة ثقافية سامقة، لأنه بالفعل من أبرز رواد الثقافة العربية الحديثة، وممن خدموها خدمات جليلة ووقفوا حياتهم على تعميق وتوسيع مساراتها نشرا وإنتاجا، عبر مجلته "الآداب" التي كانت مدرسة وضاءة لإبداع وفكر العرب الحديث منذ الخمسينيات وحتى اليوم تخرج على صفحاتها شعراء وقاصون وروائيون ونقاد ومفكرون، كما خدم الثقافة عبر دار نشره "الآداب" التي حملت لواء التبشير بالأدب العربي الجديد وأمدت المكتبة العربية بروائع الإنتاج العالمي في الفلسفة والفكر والأدب والإبداع والفن مترجمة من مختلف اللغات، علاوة على رواياته وقصصه وكتبه مثل "الحي اللاتيني" و"رحماك يا دمشق"، "الخندق العميق"، "أصابعنا التي تحترق"، وغيرها.
غير أن سهيل إدريس في كتابه هذا صدمني فعلا صدمة عنيفة لأنه لم يتحرج من التصريح فيه بأن والده كان شاذا جنسيا، ذا ميول مثلية، لقد شعرت حقا بالغثيان والاشمئزاز وعافت نفسي ساعتها المضي في الكتاب ولم أطق حتى رشوته الأسلوبية في قوله "والحقيقة أنني لم أكن أحب أبي، إذ كنت أشعر بأنه يعيش جوا من النفاق (...) واكتشفت ذات يوم ( .... ) وتكررت هذه الحادثة .. إلخ"، فأي شيء يضيفه نشر هذه "الفضيحة غير الأخلاقية" بحق "الأب" والأبوة مقامها عند كل الأمم رفيع مهما كانت السقطات؟! وما الذي سيضيفه حديث عن شذوذ الأب لإبداع وفكر وتراث وسمعة سهيل نفسه سوى المذمة والملامة؟!
ألم يكن بإمكان الدكتور سهيل شطب هذه "الوصمة" من سيرته وصون عرض والده بعدم التطرق إلى مسلكه الشائن وتركه طي الكتمان بدلا من تلويث مقام الأبوة وتدنيسه بالتشهير وبما يصم العائلة ولا يجلب لها غير الشماتة؟
ألم يكن بإمكانه أن يجد أسلوبا مقنعا يعرض من خلاله سبب نفوره من الخلوة بالرجال ومن الشذوذ والعلاقات المثلية سوى ذكر هذه "اللطخة" في حق الأب؟ وهل تراه أقنعنا أم نفرنا وهو يسوغ موقفه قائلا: "أعتقد أن هذا الحدث قد خلق عندي نفورا من العلاقات الشاذة، على الرغم مما ورد من تبريرات لهذه العلاقة تتعلق بالتأثير الجيني والتكوين الجسماني لبني البشر، من أجل هذا كنت دائما ما أتجنب الاختلاء بالرجال.. إلخ".
ترى .. هل تستلزم إدانة الشذوذ الجنسي (شذوذ) المساس بهذه العلاقة الروحية و(شذوذ) الاتكاء على ذلك، لتبرير النفور من الخلوة بالرجال؟! أتراه أدب الاعتراف وموجته ضغطا على هذا الكاتب الرائد فنسي في حمى الحماس لهذا الاتجاه قدسية العلاقة بين الأب وابنه؟ لست أدري ولست على استعداد لأن أقبل أي تبرير يسوغ الخوض في أعراض الناس، فما بالنا بأعز الناس وهم الأسرة، خصوصا: الأم والأب؟!
لقد صلب العرب شاعرهم الحطيئة على صليب القيم وظل بسبب هجائه أمه وأباه وإخوته يستمطر على نفسه اللعنات، ولم تنفع حيلته في هجائه نفسه، لكي ينسوا ويصفحوا عنه، بل ظل حتى اليوم دون أن يحظى به.. ولا أعتقد أن الدكتور سهيل إدريس سيحظى بالصفح والغفران من قرائه العرب على هذه السقطة.. فقد فعل ما هو أشنع من فعل الحطيئة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي