ما تأثير الاستقدام في المهن وتطور أدائها؟
إن قضايا وقرارات تأشيرات العمل خلال العامين الماضيين تصدرت وسائل الإعلام المقروءة, في تزامن مع النهوض الاقتصادي الكبير للمملكة, وأخذت حيزا كبيرا من النقاش المرئي والمسموع. لم يكن ذلك في الواقع إلا إعادة لتنظيمها وتقييد شروطها وتأمين قنواتها من مبدأ تفادي حدوث الفوضى في نظام الاستقدام والحفاظ على استقرار الأنظمة الأخرى من العبث أو محاولة الخلخلة فيها والبدء يرسم خطط طويلة المدى. ولكن لعدم وجود دراسات كافية أو بيانات دقيقة وجيدة التحليل جعل ظاهر الأمر وكأنه تسطيح لعملية التصحيح. الحديث الآن لابد أن يركز على جانبين أولهما: كيف نفعل المجتمع لأداء مهمته الفطرية في المحافظة على أمن الوطن والممتلكات الشخصية والعامة؟. والثاني كيف تتعامل الأجهزة الحكومية المختصة مع مستقبل سوق العمل في المملكة وهو غير واضح المعالم؟. في الواقع لأن المسؤولية مشتركة بين الحكومة والمجتمع, فكمجتمع يجب أن نسأل أنفسنا ما الذي يمنعنا من أن نكون حراسا تنفيذيين على هذه الأنظمة لتحقيق استراتيجيات الدولة العامة والاستفادة من الوضع الاقتصادي لنكون أكثر قدرة على تطوير مواردنا البشرية فيكونوا امتدادا لنا لا مِداداً لغيرنا؟. أما بالنسبة للجهات الحكومية فلأن تدريب الموارد البشرية لتأهيل أو إعادة التأهيل لسد الثغرات في القطاعات الحكومية والخاصة والمدن الاقتصادية الواعدة يتطلب كثيرا من التنظيم والإعداد الجيدين, فإن علينا أن ندرك عمليا أن اختزال الزمن يجب أن يكون أحد أسس المعادلة أيضا, مع تأمين كيفية تخطي العقبات والتعامل مع المعوقات باستراتيجية واضحة وثابتة غير قابلة للتغيير إلا بعد إجازة مجلس الشورى وموافقة مجلس الوزراء.
آنياً قد يكون في تبني تقنية المعلومات, فرصة لأن يتمتع المجتمع بمزيد من الكفاءة معلوماتيا وتقنيا ويجعله يعيش مناخا تفاعليا تعود فائدته لجميع الأطراف, لأن ما يعرف بالبطالة الفنية ستكون إفرازا طبيعيا لتخلف المهارات البشرية عن التعامل مع التقنية الحديثة وعندها ستكون الحلول عشوائية. إن مجرد النظر لما رصد لقطاع التعليم في ميزانية هذا العام والذي بلغ 96.7 مليار ريال، لإنشاء ما يزيد على ألفي مجمع ومدرسة جديدة للبنين والبنات لتصبح قرابة سبعة آلاف مدرسة, ورصد مبلغ 39.5 مليار ريال لقطاع الخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية, لإنشاء وتجهيز ما يزيد على380 مركزاً للرعاية الصحية الأولية وإنشاء 13 مستشفى على مستوى المملكة, وزيادة رأسمال صندوق الاستثمارات العامة التنموية بمبلغ 20 مليار ريال، لهو دعوة إلى عمل متواصل لسنوات طوال مقبلة. وما الدراسات الجارية لتأسيس مدينتين اقتصاديتين جديدتين تنضم إلى المدن الاقتصادية الأربع التي تم إطلاقها سابقا إضافة إلى العديد من الشركات الجديدة المقبلة, إلا بشرى خير لعشرات بل مئات المشاريع الاستثمارية التي ستوفر ملايين الوظائف خلال السنوات العشر المقبلة ما يجعل الخوف من فقدان الأمن الوظيفي شعور غير مبرر. من ذلك يتضح أن الفرصة سانحة للاهتمام بأولويات التخصصات وجودة المخرجات, وسيساعد في ذلك الرجوع إلى قواعد البيانات التي جمعت خلال الـ 25 عاما الماضية, والبدء في علاج وضع المهن التي تشتكي العجز فيها حسب الأهمية والأولوية. ولئلا يكون الحكم على الحاجة لفتح أو إقفال الاستقدام في هذه التخصصات على شواهد دونما أن تكون ثوابت مستنبطة من نتائج دراسات علمية, لابد من تكليف أهل الاختصاص أكاديميين وباحثين لدراسة هذه البيانات وتحديد المهن والمسميات الوظيفية المختلفة المناسبة ومناقشتها مع المسؤولين في المصلحة المستفيدة للحكم على حاجتها علميا ومن منطلق كمي ونوعي مدروس.
من جانب آخر من الضروري إعادة النظر في أهمية وضع حد أدنى للرواتب حتى على مستوى القطاع الحكومي فالمعايير أصبحت مختلفة بناء على التطور المستمر في سوق العمل، ولابد أن ننهض بتوازن في كل جانب من شؤون العمل. أما من ناحية وضع الاستقدام الخاص أو تنظيم نقل الكفالة في مهن وتخصصات يعزف عنها الشباب والشابات السعوديون فتحفيزهم على امتهانها لن يتم إلا إذا طورت وقننت أساليب أدائها وآليات تنفيذها. وحسبي أن نبدأ بالقطاع الخاص الذي قد يخلق منافسة غير عادلة بين الوافد والمواطن في وظائف إدارية أو مهنية بسيطة من المفترض أن تنتهي خلال هذا العام على أكثر تحديد.
إجمالا من الواضح أن هناك حاجة إلى قياس مدى التحسن الذي جنيناه من الاستقدام على مستوى تطوير النظم وتحسين الأداء وتقدم الخدمات ورفع مستوى المعيشة نوعيا على مدى الـ 25 عاما الماضية. ثم من المهم حساب حجم الحاجة الفعلية للاستقدام في كل التخصصات. ولتكون النتائج ذات فاعلية على المدى البعيد فقد نستمر لمدة عشر سنوات أخرى في فهم مدى تأثير تأشيرات العمل التي منحت للقطاعات العامة والخاصة كافة في مؤشرات العمل لكل المهن والتخصصات, وما تحقق من تقدم في أداء الموارد البشرية والتقنية المستخدمة وتطوير مهاراتها بتحديث أسلوب التعامل مع المستجدات. كما لابد من مقارنة وقياس العائد بحجم ما أنفق على الاستقدام خلال الـفترة المذكورة.
نقطة أخيرة.. نحن نكرس جهودنا في هذه الأيام على التدريب وإعادة التأهيل... إلخ, إلا أن مناهج الدراسة الأساسية والدراسات العليا مازالت تؤدَّي بالمحتوى نفسه والمنهجية وأسلوب التعليم الذي لا يساعد في تنمية وتوجيه العقول الناشئة بشكل صحيح, ما يعني أننا سنستمر في تدريب وإعادة تأهيل كل الخريجين - وليس البعض - وفي عجلة مستمرة لانهائية, ناهيك عن أننا لم نعمل بجد في تطوير ثقافة أخلاقيات العمل وتطوير مؤشرات العمل اللائق خلال هذه الموجة من إعادة التأهيل, فهل نحن فعلا على طريق تحقيق استدامة التنمية الشاملة؟... آمل ذلك!!.