دور المؤسسات التربوية في عصر العولمة

[email protected]

في عصر الثورة في وسائل الاتصال والمواصلات بين المجتمعات والأمم أصبح من المتيسر تدفق المعلومات وانتقال الثقافات عبر الوسائط المتعددة حتى إنه لم يعد يحدث حدث في أقصى جهات الأرض إلا وتتم مشاهدته والتعرف عليه وعلى أسبابه والآثار الناجمة عنه. وفي وضع كهذا تحولت المجتمعات - التي كانت مغلقة في يوم من الأيام على نفسها بعاداتها وتقاليدها وشعبها ومثلها وقيمها - إلى ساحة مفتوحة تغزوها البضائع المادية والمعنوية والثقافية، حتى أطلق قبل ما يقارب عشرين عاماً مصطلح القرية الكونية، تعبيراً عن التقارب والتواصل بين المجتمعات والشعوب، وتعبيراً عن اختفاء الحدود التي كانت تحول بين تقارب المجتمعات. وفي مثل هذا الوضع تعرفت الشعوب على بعضها بفعل زيادة المعلومات وسرعة تدفقها ووصولها، لكن ناقوس الخطر طرق من قبل المهتمين والحريصين على ثوابت الأمم وثقافاتها، ذلك أن هذا الانفتاح والتواصل وتدفق المعلومات والمعارف يحمل في طياته الكثير من المخاطر بالإضافة إلى الإيجابيات التي يبشر بها. وأصبح المحافظون على قيم وثوابت المجتمعات ينبهون إلى ضرورة تكاتف الجهود من أجل حماية المجتمعات من هذا الخطر الداهم ذلك أنه بانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي برزت قوة وحيدة توفرت لها إمكانات اقتصادية وإعلام مؤثر وقوة عسكرية، مما مكنها من بسط هيمنتها ونفوذها على العالم ومن أجل استمرار مكاسب الهيمنة والتفرد في هذا العالم توجهت الولايات المتحدة الأمريكية توجهاً جديداً تشكل من خلاله المجتمعات وتعيد صياغة الشعوب لتكون منسجمة في ثقافتها وقيمها مع الثقافة والقيم الأمريكية مما يحقق الأهداف الاقتصادية والعسكرية والثقافية التي تسعى لتحقيقها. ولعله من نافلة القول أن الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) أصبحت أداة سريعة وفاعلة تم توظيفها في عصر العولمة لتمثل أسرع وأسهل طريقة لتحقيق التقارب والتفاعل بين المجتمعات والأمم مع ما يعنيه هذا التقارب من آثار إيجابية أو سلبية على حد سواء.
وأخذاً في الاعتبار لخاصية الحماية الذاتية والاجتماعية التي يتمتع بها الأفراد والمجتمعات فقد انقسم الناس إزاء العولمة وما قد تحدثه من آثار وخلخلة في المجتمعات فمنهم من يرى أن لا مناص من التعامل معها والتفاعل، بينما يرى آخرون أن التعامل يفترض أن يكون وفق حدود معينة تحفظ للمجتمعات خصوصيتها وشخصيتها الثقافية واستقلاليتها في قيمها وتراثها ومبادئها. كما يوجد على الساحة العالمية فريق ثالث يرى ضرورة التصدي للعولمة ومحاربتها والوقوف في وجهها بل والانغلاق على الذات، لكن مثل هذا الطرح قد لا يصمد طويلاً أمام هذه القوة المادية والمعنوية. وإذا كانت العولمة تدفع وبقوة نحو التأثير المباشر وغير المباشر والخطر في كثير من الأحيان، فإن الأمر يستلزم البحث عن الحلول والأساليب التي تقلل من الآثار السلبية للعولمة وتزيد من فرص الاستفادة من العولمة واستثمار إيجابياتها.
وأعتقد جازماً أن التعامل مع العولمة لا يمكن أن يتم بمعزل عن التربية ومؤسساتها وجميع الأنشطة التي تتم داخل الحقل التربوي الرسمي وغير الرسمي فيه. ولذا لابد من أن نسأل كيف يمكن للتربية بمؤسساتها المختلفة ومناشطها المتنوعة أن تسهم في الاستفادة من العولمة؟ أعتقد جازماً أن إسهام التربية ينطلق في الأساس من مجموعة منطلقات أولها تزويد الناشئة بمعلومات عن العولمة من خلال بث معلومات في المناهج الدراسية وعبر الأنشطة اللا صفية، كطابور الصباح ولجان النشاط والملصقات الجدارية ومن خلال المحاضرات والدراسات والبحوث وغيرها حتى لا تكون العولمة غولاً يسمع عنه الطلاب ولا يعرفون كنهه وطبيعته والمحتمل من إيجابياته وسلبياته. أما المنطلق الثاني فهو أن مؤسسات التربية تلعب دوراً بارزاً في تشكيل العقول ووضع لبنات طريقة أو طرق التفكير وهذا هو المكسب الأساس إذ لابد من إعداد الأجيال بصورة تجعلهم قادرين على التعامل مع الأمور كافة بصورة مرنة وهذا لا يعني قبول الأشياء والتسليم بها بل المقصود عدم رفض الأشياء لمجرد أنها غريبة، إذ لابد من إخضاع الأشياء للتحليل والغربلة والنقد والتمحيص وهذه طرق تفكير قد لا تتوافر لدى الكثير منا إذ أن البعض قد يتعامل من خلال الرفض الكلي أو القبول الكلي دونما تمييز بين مكونات الشيء الذي يتم التعامل معه، والتبصر في إيجابياته وسلبياته، وبعده وقربه من ثقافتنا وقيمنا أو تعارضه وعدم تعارضه مع هذه المكونات الاجتماعية والثقافية.
ومن حسن التعامل مع العولمة واستثمارها بصورة مثلى أن يغرس في أذهان الناشئة أنها آلية من آليات التعامل بين المجتمعات والأمم ويمكن استغلال هذه الآلية وتوظيفها لتبصير الآخرين بثقافتنا وقيمنا ومبادئنا بدلاً من الركون والانتظار لآثارها. ويمكن التشبيه بين العولمة وأجهزة الاتصال والإعلام إذ يمكن استثمار هذه الأجهزة بالنافع والمفيد ويمكن توظيفها كوسيلة تدمير وقتل للأفراد والمجتمعات فالقنوات الفضائية أحد آليات العولمة بعض الدول تستخدمها لتمرير كل ما هو مفيد ونافع بينما دول أخرى تحولت فيها القنوات الفضائية إلى آليات لهو وعبث ومسخ للأفكار وتدمير للأخلاق والقيم.
إن الولايات المتحدة وهي تستغل هذا المنتج الفكري وتجيره لمصلحتها لم يكن لها لتفعل ذلك لولا الفراغ الذي وجدته في الساحة الدولية إذ لا يوجد من يملأ هذا الفراغ، وكذا الإمكانات الهائلة المتوافرة لها سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو ثقافية أو تقنية أو إعلامية، وقبل هذه جميعاً، الإمكانات البشرية المدربة والمؤهلة تأهيلاً عالياً في المجالات كافة، حيث تمكنت بتوظيف هذه الأدوات من فرض نفوذها وسياساتها عبر المؤسسات الدولية كهيئة الأمم المتحدة أو البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي وذلك بغرض تمرير ثقافتها السياسية والاجتماعية ومجموعة منظومة الحياة التي تؤمن بها، ولذا لا غرابة أن نسمع المسؤولين الأمريكيين وهم يرددون لماذا الآخرون يكرهون ثقافتنا ونظام حياتنا وكأنهم بمثل هذا التساؤل يستنكرون على الآخرين التشبث بثقافاتهم وقيمهم ونظم حياتهم وما عليهم إلا الترحيب بالثقافة الأمريكية ونظام الحياة الأمريكية.
إن التطورات العالمية وما صاحبها من تغيرات داخل المجتمعات يحتم أن تكون مواجهة العولمة من خلال العقل والتفكير السديد الذي يستثمر عناصر القوة كافة وهذا لا يتحقق إلا بتقوية الذات وبناء المجتمعات بصورة تجعلها أكثر قوة ومنعة وأكثر إنتاجية لاحتياجاتها واحتياجات غيرها بدلاً من انتظار عطاء الآخرين ومساعدتهم.
إن ثقة الشعوب بمقومات الحياة المحلية وتوارثها بين الأجيال وتعزيزها من خلال المؤسسات التربوية والإعلامية والوسائل كافة هو المدخل الطبيعي للتعامل مع العولمة بكل اقتدار بدلاً من الانتظار ومن ثم السحق تحت أقدام العولمة الرأسمالية التي لا تعرف إلا الأقوياء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي