كيف تكون السعودة رقماً في حسابات الدخل القومي؟
يقضي مفهوم الاقتصاد الحر (الرأسمالي) بتقليل تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ما أمكن، وأن تركز الدولة على تهيئة النظام والبيئة الملائمة لقيام نشاط اقتصادي يحقق قيمة مضافة للاقتصاد ويؤدي إلى توظف أعلى للموارد ومن ضمنها الموارد البشرية. مما يعني أن وظيفة الدولة يجب أن تركز على سن القوانين التي تهيئ ممارسة النشاط الاقتصادي بشكل يحقق الأهداف الاقتصادية العامة للدولة. وهذه القوانين ولكي تحقق الأهداف الاقتصادية العامة يجب أن تكون متسقة مع المبادئ العامة للنظام الاقتصادي الحر ومع مبادئ النظرية الاقتصادية الأساسية.
ونظرياً، فإن كل فرد، عند استجابته لمؤثر ما حوله، يأخذ في الاعتبار التصرف الذي سيقوم به الطرف الآخر ومن ثم يبني استجابته المثلى على هذا الأساس. وبتصرف الطرف الآخر بالطريقة نفسها يمكن لكل منهما أن يتوصلا إلى وضع توازني يمثل أفضل ما يمكن التوصل إليه. وأهمية هذا الجانب في وضع السياسات الاقتصادية هو أننا عندما نصمم سياسة اقتصادية معينة يجب أن نأخذ في الاعتبار ردود فعل واستجابة جميع الأطراف الذين تستهدفهم هذه السياسة، ومن ثم نصمم السياسة الاقتصادية بشكل يهيئ الوضع الملائم لتحقيق وضع توازني ملائم لكلا الطرفين باستخدام آليات السوق. أما الاعتماد على فرض السياسة الاقتصادية وحمل الناس على قبولها والرضوخ لها بالقوة، فحتماً لن يؤدي إلى تحقيق النتائج المرجوة، لأننا نحاول حمل الفرد أو المنشأة على القبول بشيء غير ملائم لها اقتصاديا ومخالف لمفهوم الرشد والعقلانية.
وكثير من السياسات الاقتصادية تواجه صعوبة في تحقيق أهدافها بسبب عدم أخذها لاستجابات الأطراف أصحاب العلاقة في الاعتبار. وقضية السعودة إحدى القضايا التي يمكن أخذها كمثال على ذلك. فقضية توطين الوظائف ليست قضية جديدة متعلقة بالمملكة فقط وإنما تواجهها الكثير من الدول، والدول التي نجحت في تحقيقها هي الدول التي تعاملت معها باستخدام آليات السوق وليس عن طريق العصا الغليظة. والمشكلة الأساسية في السياسات المعتمدة لتحقيق السعودة أنها تعتمد على الفرض بالقوة، بمعنى وجوب تحقيق كل شركة نسبة معينة من السعودة، وذلك دون الأخذ في الاعتبار الطريقة التي سيستجيب بها أصحاب هذه الشركات لمثل هذه القرارات.
إن سياسات العمل في المملكة تحتاج إلى أن ترتكز على هدف رئيس من خلال عملية توطين الوظائف وهو العائد على الاقتصاد الوطني ككل من خلال زيادة الناتج المحلي الإجمالي، فعملية توطين الوظائف ليست الهدف النهائي، ولكن الهدف النهائي هو ما نتطلع إليه من نتائج إيجابية على الاقتصاد الوطني. وعلى هذا الأساس فإننا نتوقع أن تكون هناك تكلفة على الاقتصاد الوطني من جراء هذا التوطين وما دام العائد المتوقع أعلى فستكون عملية توطين الوظائف مجدية. أما إذا كان ذلك سيؤدي إلى تكلفة أعلى من العائد المتوقع فستكون الآثار السلبية وخيمة على الاقتصاد الوطني. والطريقة التي تتبع في وضع سياسات العمل سوف تحدد التكلفة من جراء عملية توطين الوظائف، وكلما كان الاعتماد على آلية السوق أكثر كانت التكلفة من جراء عملية التوطين أقل وكان العائد أعلى. ومن هنا أرى أن توطين سوق العمل يرتكز على النقاط التالية:
أولاً: التركيز ما أمكن على خلق بيئة تنافسية في سوق العمل وعلى زيادة جاذبية المواطن لدى أصحاب العمل. بمعنى أنه بدلاً من أن نفرض المواطن على صاحب العمل لمجرد أنه سعودي، يجب أن نركز على عوامل الجذب فيه في مقابل العامل الأجنبي.
ثانياً: خلق سوق عمل واحدة سواء للأجنبي والسعودي داخل المملكة عن طريق توحيد القوانين المتعلقة بكل منهما، حيث إن الحاصل الآن أن هناك سوقي عمل مختلفتين لكل منهما، والمزايا التي تقدمها سوق العمل الأجنبية أكثر من المزايا التي تقدمها سوق العمل السعودية.
ثالثاُ: موازنة تكلفة دخول سوق العمل بالنسبة لكل من العامل السعودي والأجنبي بحيث تصبح متقاربة سواء عن طريق وضع حد أدنى لأجور العاملين، أو عن طريق رفع تكلفة استقدام العامل الأجنبي، مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من القطاعات كقطاع المقاولات وقطاع خدم المنازل هي قطاعات غير ملائمة للمواطن للعمل فيها، وعلى العكس فهي تمثل ميزة نسبية للمواطن بحيث أنها تساعد على تقليل تكاليف المعيشة المتعلقة به.
رابعاً: يتميز العامل الأجنبي بعدة مزايا على المواطن ومن ضمن هذه المزايا: العمل لساعات أطول، عدم القدرة على تغيير العمل، القبول بسكن غير ملائم وغيرها من المزايا الجاذبة لصاحب العمل، ومهمة واضع سياسات العمل ترتكز على تقليل هذه المزايا عن طريق سن القوانين المحددة لساعات العمل وترك الحرية للعامل الأجنبي لتغيير مكفوله أكثر من مرة في خلال فترة العقد.
إن الاعتماد على السياسات الحالية وإن أدت إلى زيادة في توظيف المواطنين في القطاع الخاص، فإنها أدت إلى تكاليف أكبر بكثير مما لو تم تحسين سوق العمل من خلال اعتماد سياسات السوق. فما نشهده اليوم من هجرة لكثير من الصناعات ومن سوق سوداء للفيز وأخيراً سوق سوداء لخدم المنازل إلا نتيجة الاعتماد على سياسات الفرض بالقوة والتي حتماً ستنتج عنها استجابات مختلفة لكل الأفراد تبعاً لمصالحهم الشخصية. وزيادة على ذلك، الشعور المتراكم الذي خلقته هذه السياسات لدى المواطن أنه أحق من الأجنبي بالحصول على الوظيفة دون النظر إلى فوارق التأهيل والخبرة والإنتاجية، ستؤدي إلى آثار سلبية ليس عليه فحسب، وإنما على الاقتصاد الوطني ككل. فنحن في النهاية نهدف من خلال دعم عملية توطين الوظائف إلى زيادة الإنتاجية ومن ثم زيادة الدخل الوطني، الأمر الذي سينعكس على المواطنين بجميع فئاتهم. وأخيراً أتمنى ألا تكون السعودة أرقاماً فقط في عدد العاملين وإنما أرقاماً أيضاً في الجانب الإيجابي لحسابات الدخل القومي.