أحلامنا في الإسكان (1 من 2)
تحظى مسألة الإسكان بأولوية وأهمية خاصة في كل مجتمعات الدنيا كونها من الحاجات الأساسية الثابتة التي لا يستغني عنها الناس لارتباطها بصميم حياتهم. ولعل أظهر ما يوضح أهمية هذا القطاع هو أن تمويل نشاطه يستغرق نحو 60 في المائة من مجمل عمليات التمويل في عديد من دول العالم.
وعلى الرغم من ظهور مؤشرات مبكرة حول معدل النمو السكاني العالي في بلادنا، مما يعكس حاجة البلاد لتطوير منظومة قطاع الإسكان من جوانبها القانونية والتنظيمية والفنية والتمويلية كافة، إلا أن هذا القطاع لم ينل في الحقيقة حظه من الاهتمام والتطوير الذي تفرضه تبعات النمو السكاني، وتوجبه تداعيات تطور بقية قطاعات الاقتصاد. ويبدو للأسف أننا لا نتصدى بجدية للتحديات الاقتصادية التي تواجه حياتنا إلا حين تشتد حدتها،على الرغم من أننا التزمنا بالتخطيط من أجل التنمية منذ نحو أربعة عقود.
هناك عجز في عرض الوحدات السكنية مقابل الطلب المتزايد، وتعاظم هذا التحدي فرض نفسه أخيرا. فقد بدأ هذا القطاع يحظى باهتمام بعض الجهات الحكومية والخاصة. فمجلس الشورى كان قد ناقش بعض مشكلات هذا القطاع قبل عدة أشهر، وخاصة ما يتعلق بنظام الرهن العقاري، الذي يعتبر بمثابة عنق الزجاجة نحو انطلاق وتطور قطاع الإسكان في مجتمعنا. ويفترض أن المجلس الموقر قد انتهى إلى توصيات ومقترحات رفعت للجهات العليا.
وكنت قد تشرفت بالكتابة للمقام السامي منذ نحو أربع سنوات أشرت إلى أهمية النظر في تطوير نظام للرهن العقاري. كما اقترحت حينها حلا عاجلا للتصدي لمشكلة قوائم الانتظار الطويلة في صندوق التنمية العقاري. كانت ميزته الأساسية أنه لا يكلف وزارة المالية أية أعباء مالية إضافية، خاصة أن الموارد آنذاك كانت محدودة. وكان اقتراحي مبنيا على فكرة استخدام موارد الصندوق، ليس في تقديم التمويل المباشر للناس، وإنما في تقديم ضمانات للبنوك التي تقدم هي بدورها التمويل اللازم لهم. وميزة هذا الاقتراح بجانب أنه كان لا يتطلب موارد إضافية من وزارة المالية، هي أنه يسمح بمضاعفة عدد المستفيدين إلى نحو 99 ضعف عددهم الحالي! ذلك أن الإحصاءات تشير إلى أن نسبة الديون المعدومة لدى البنوك هي في حدود 1 في المائة، وعليه فإن المبلغ المخصص لكل فرد لدى صندوق التنمية سيستفيد منه 99 فردا بدلا من واحد، إذا ما خصص الصندوق هذا المبلغ لتقديم ضمانات عليه للبنوك بدلا من استهلاكه من قبل شخص واحد.
ومع ذلك، فقد أصبح واضحا الآن أن التمويل الحكومي لن يستطيع وحده أن يجارى الحاجة المتزايدة لتمويل الطلب الكبير على المساكن. ومن حسن الطالع أن بدأ القطاع الخاص أخيرا يبدي اهتماما ملحوظا بقطاع الإسكان، سواء من ناحية التطوير أو التمويل. وفي هذا السياق جاء مؤتمر "التمويل الإسكاني في المملكة" الذي عقد في مدينة الرياض قبل عدة أيام ورعته شركة الأركان بالتعاون مع مجلة "يورومونى". وقد ناقش المؤتمرون جوانب متعددة من التحديات التي تواجه قطاع الإسكان، وسيكون للتوصيات التي سينتهون إليها أهمية بالغة لتطوير قطاع الإسكان في بلادنا.
لكني أحب أن أشير إلى مشكلة لم يتطرق لها أحد في المؤتمر- بحسب علمي - و تتعلق بظاهرة ارتفاع تكلفة الحصول على الأراضي البيضاء. فالمشاهد هو أن الناس أضحت تجد صعوبة في الحصول على أراض قريبة من الخدمات الأساسية، بتكاليف معقولة ومناسبة لقدراتهم المادية ومستويات دخولهم. وتتضح هذه المشكلة أكثر في المدن الرئيسة ذات الكثافة السكانية، في الوقت الذي يُلاحظ وجود مساحات كبيرة داخل هذه المدن مملوكة لكنها غير مستغلة وقد تجاوزها العمران بمسافات. ولعل هذه المشكلة تعود في أحد أهم أسبابها لاستحواذ قلة على أراض واسعة عن طريق المنح المجانية، ليس لغرض سكنهم الذاتي وإنما لأغراض زيادة الثراء والتوسعة. ثم تنتقل هذه المساحات الشاسعة من مالكها الأول (عبر وسيط) إلى تاجر كبير بتكلفة أولية عالية. حيث يقوم الأخير بتسويتها وإنهاء الإجراءات النظامية اللازمة لتخطيطها وتقسيمها ليعرضها كقطع سكنية صغيرة تباع للناس بتكاليف عالية لا تعبر حقيقة عن القيمة المضافة التي أدخلت على هذه الأراضي البيضاء. وإذا كانت القوانين في كثير من بلاد الدنيا تمنع وتجرم أساليب الإثراء غير المشروعة، فإن الجرم يكون أفدح عندما يتعلق بممارسات تؤول إلى رفع تكاليف حاجات الناس دون مسوغ مقبول، سواء تعلق الأمر بالسكن أو نحوه كالطعام والكساء والتعليم والرعاية الصحية والوقود وغيرها مما يستجد في حياة الناس من الضرورات تبعا لتطور أساليب الحياة ذاتها.
وفي ظل ظاهرة نمو السكان الكبير، واتساع نسبة الشباب في هيكل السكان، ومحدودية الأراضي في مدننا الكبرى، فإن هذه المشكلة تستدعي مراجعة أسلوب المنح، ووضع ضوابط صارمة عليه تضمن على الأقل عدم استفحالها. وقد يتطلب الأمر فرض واجبات مالية خاصة على مثل هذا النوع من الملكيات تحديدا، أو استنباط حكم شرعي بفرض الزكاة عليها حتى لو كان من باب المصلحة المرسلة. فهذا من شأنه أن يدفع أصحاب هذه الملكيات إما إلى تطويرها أو بيعها لمن يقدر ويرغب في تطويرها وإدخالها في دائرة النشاط الاقتصادي. بل يمكن أيضا استرجاع هذه الملكيات بنزع ملكيتها إذا اشتدت حاجة الناس إليها، وتبين استمرار بقائها عاطلة لمدة خمس سنوات مثلا، حتى مع وجود فرائض مالية عليها. فهذا مما يتوافق مع مقاصد الشريعة في المعاملات.
لكن قطاع الإسكان يعاني من مشكلات أخرى متعددة. فجانب غياب نظام فاعل للرهن العقاري ونظام لتوثيق الملكيات، هناك غياب لمؤسسات التمويل المتخصصة القادرة على تطوير أدوات تمويل ملائمة. كما يفتقر القطاع إلى شركات تطوير عقاري رائدة تمارس دور صانع ومحرك للسوق. وللحديث بقية.