ذهنية الماضي
حكم القاضي على رجلين بالإعدام وترك لكل واحد منهما اختيار طريقة التنفيذ. الكرسي الكهربائي أو السيف أو الرمي بالرصاص. فاختار الأول الإعدام بالكرسي الكهربائي، وضعوه على الكرسي، قيّدوه ثم ضغطوا على أزرار التشغيل فلم يعمل. قالوا له نجوت. ثم سألوا الآخر: وأنت ماذا تختار؟ صاح: بالسيف!! صرخ الجمهور في الخارج من وراء قضبان الزنزانة: الكرسي الكهربائي.. الكرسي الكهربائي. فالتفت نحوهم باستغراب وهو يهز يديه: عطلان.. عطلان.. عطلان!!
هذه الطرفة بلا معقوليتها تكاد تلخص حال العرب فكرا وأداءً. فأنت غالبا ما تقرأ مقالا أو كتابا أو بحثا تمت كتابته ونشره في وقتنا الراهن، فلا تجد فيه إلا اجترارا لفكر الأمس سواء في الأدب أو التاريخ أو الفلسفة أو الفقه أو الاقتصاد. أو ما شئت من علوم وفنون سبق لأجدادنا في عصور التدوين الأولى وما بعدها أن كتبوا فيها ما نسميه مراجع ومصادر وأمهات الكتب، ظللنا نتكئ على اجتهاداتهم ونقولاتهم كحجة نسبغها على ما نريد قوله في سبيل إضفاء المصداقية عليه، متوجين الماضي على الحاضر مطفئين وميض الجديد بالتليد قامعين الفكر الرائد بالنص البائد ومسلمين الزمام بأيدي الموتى لقيادة الأحياء. كما لو كنا مشمئزين من نفوسنا ومما يجول فيها من هواجس وتصورات، ومشمئزين من زماننا غير قادرين على مواجهة حقيقة كوننا ولدنا فيه ولم نولد في تلك السنين الغابرة.
إننا نتعامل مع معطيات الحضارة اليوم بمنطق مقلوب، فتجدنا أحرص ما نكون على الإصرار على أن إشكالات عصرنا الفلسفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية حلولها موفورة فقط في الكتب الصفراء وما خطه المتقدمون الذين لم يخطر ببالهم قط ما يشبه هذه الإشكالات، ولكننا نحن نعتسف جرجرة اجتهاداتهم وأقوالهم ونرغمها على أن تكون هي الحل الأمثل وأن هذا العصر بكل تقدمه العلمي، المعرفي، والتقني، ومدى الوعي الشاسع العميق لا يقوى على مثله مع أن أجدادنا على أي نحو من الأنحاء لم يكونوا أوفر حظا منا في العلم والمعرفة!!
إنني أذهل كثيرا من حجم التكريس للماضي في بحوثنا ودراساتنا وكتبنا ومقالاتنا وحواراتنا. ثمة هرولة للماضي لأخذ المصداقية والتزكية منه لكل ما يراد له أن يكون خطابا عصريا. فنحن حريصون على أن نجد في كتب الأقدمين والسابقين مفاتيح زماننا، وإذا لم نجد ما يقارب مشكلاتنا وإشكالاتنا فإننا نمتلك قدرة عجيبة على تلفيق البراهين والاستشهادات من خلال شذرات أقوال أو مواقف يخيل لنا أن فيها ما يشبه ما نواجهه من مشكلات فنصرخ كما صرخ "أرخميدس": وجدتها.. وجدتها، ونستبسل في إثبات صحة ما نقول حتى لو كان ما عثرنا عليه عكس المراد!!
هذه الذهنية الماضوية لا تنتج سوى عداوة منهجية ومضمونية مع العصر، حتى وإن كانت تتنطع بلغة أجنبية وتتعامل مع الحاسوب لكنها لا تنتج إلا ما هو ضد الذهنية والمنهجية التي أنتجته. وما من سبيل لإيقاف تحكم الماضي في اليوم والغد إلا بالقطيعة المعرفية معه، فالأمس يسد الدروب ونحن أنفسنا نوقفه لنا بالمرصاد لكي يكبح شهيتنا في الإقبال على عصرنا وإلا.. فأبدا ليس علم وفكر وأدب وفنون ومعارف الأولين أفضل ممالدينا بأي حال من الأحوال، لأنه لو كان الأمر كذلك لما حدث التقدم والتطور. ولبقينا نركب الأباعر والحمير والبغال ونكتب بالريشة والكاغد ونأكل الضب وأطراف الجراد.
ولما سامر بعضنا بعضا بالهاتف أو الإنترنت على طرفي الكرة الأرضية، ولما أصبحنا نطير في الفضاء، نغوص في أعماق البحار، ولما أنتج بلد في الاقتصاد ما لم يكن ينتجه العالم كله في غابر الأزمان. علاوة على التقدم الهائل في الطب والعلاج وسائر العلوم والتقنيات والخدمات التي كانت كلها ضربا من الخيال عند أجدادنا الذين نصر على أنهم في مؤلفاتهم وعلومهم ومنجزاتهم أفصل منا: (وأن الأول لم يترك للأخير شيئا!!) أليست هذه حال ثقافتنا وجدلنا الفكري؟ فما لم يقله الأولون هو مشبوه إما بدعة وإما تغريبا وإما غزوا ثقافيا لا يستحق سوى أن ندير له ظهورنا وكأننا رجل الطرفة الذي ظل يصرخ.. عطلان.. عطلان.. عطلان.. مسلما رقبته لحد السيف!!