واشنطن تسعى إلى "تركيع" الصناعة النفطية الإيرانية

واشنطن تسعى إلى "تركيع" الصناعة النفطية الإيرانية

رغم صدور قرار مجلس الأمن فرض عقوبات على إيران لاستمرارها في برنامج تخصيب اليورانيوم، إلا أن تلك العقوبات لن تؤثر في الصناعة النفطية، وهو ما أوضحه ريتشارد بيرنز مساعد وزير الخارجية عندما سئل عن آثار تلك العقوبات على صفقة 16 مليار دولار بين شركة النفط الوطنية الإيرانية والشركة الوطنية الصينية للعمل في المياه المغمورة في مشروع بارس الشمالي لاستغلال الغاز وتصديره، عندما أوضح أن الصناعة النفطية الإيرانية تبقى خارج تلك العقوبات.
لكن هذا لم يمنع تحركا أمريكيا من ناحيتين: أولاهما ما سيقوم به الكونجرس ويتصدره النائب الديمقراطي توم لانتوس بإثارة الأمر، وثانيهما تفعيل القرار الذي أصدرته إدارة الرئيس بيل كلينتون منذ عام 1996 القاضي بتغريم الشركات الأجنبية التي تستثمر في إيران مبالغ تزيد على 20 مليون دولار.
وكانت من أولى الشركات التي ستتعرض إلى تطبيق هذا القانون الفرنسية "توتال"، التي تنشط للعمل في المرحلتين الثانية والثالثة لتطوير حقل بارس الجنوبي، ولو أن إدارة كلينتون أعفت "توتال" في البداية، وهي خطوة يقول بعض مسؤولي الخارجية إنها أدت إلى تدفق للاستثمارات الأجنبية بمبالغ وصلت إلى 11.5 مليار دولار منذ تأمين ذلك الإعفاء، وهم بالتالي يرغبون في إرسال رسالة أن الوضع قد اختلف.
ومن الضغوط التي لجأت إليها واشنطن تكثيف اتصالاتها مع الدول الأوروبية، التي قدمت ضمانات مصرفية لإيران عام 2005 بقيمة 18 مليار دولار، والتركيز على الجانب المصرفي والحديث إلى البنوك الأجنبية وقف أي تعاملات لها مع إيران، الأمر الذي يمكن أن تكون له نتائج مؤثرة في الصناعة النفطية كذلك، خاصة وأن تجارة النفط العالمية تدار بعملة الدولار، الأمر الذي يعطي واشنطن قدرا من التأثير، حيث تمر تحويلات الدولار بنيويورك، وهو ما سعت طهران إلى تجنبه بالإعلان أنها ستلجأ إلى عملة اليورو في تعاملاتها المالية.
وزارة الخزانة الأمريكية تحركت في الفترة الأخيرة لمنع المواطنين وفروع البنوك الأمريكية في الخارج من التعامل بأي صيغة مصرفية مع بنك "سيباه" وفروعه في لندن، باريس، روما، وفرانكفورت، وذلك على أساس ضلوع هذا البنك في تمويل المشروع النووي الإيراني.
هذا التحرك الذي يستهدف المصارف التي يمكن أن تكون لها صلة بإيران يأتي في الوقت الذي بدأت تبرز فيه متاعب الصناعة النفطية الإيرانية بصورة جلية، الأمر الذي دفع بعض المراقبين إلى القول إنه إذا استمرت هذه المتاعب فإن إيران قد تتوقف كدولة مصدرة للنفط في غضون عشر سنوات، بسبب تداخل عوامل تصاعد الاستهلاك المحلي، عدم النجاح في زيادة حجم الطاقة الإنتاجية، والتراجع الطبيعي في القدرات الإنتاجية للحقول العاملة، حيث تبلغ نسبة التراجع في الحقول التي على اليابسة 8 في المائة وتلك المغمورة 10 في المائة، ويساعد في هذا كله السعي الأمريكي لوقف أي عون مالي أو تقني من الخارج.
وفي لقاء مع صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأمريكية أخيرا، قال محمد هادي نجاد الحسينين نائب وزير الطاقة الإيراني للشؤون الدولية، إنه "إذا لم تستطع الحكومة السيطرة على الاستهلاك الداخلي، وإذا لم تتم زيادة الطاقة الإنتاجية وحماية حقول النفط والآبار خلال عشر سنوات، فلن يكون هناك فائض نفطي للتصدير". لكن بعض المراقبين يفسرون هذه "الصراحة" من قبل المسؤولين على أساس أنها وسيلة مقصودة للفت أنظار القيادة السياسية إلى متاعب القطاع النفطي للعمل على معالجتها.
لكن هذا التوقف، عندما يحدث، لن يكون فجأة، وإنما بالتدريج، الأمر الذي يمكن أن يقلل من وقع تأثيره في الأسواق. ولهذا ينظر إلى الجهود الأمريكية الأخيرة بالتركيز على منع المصارف الدولية من التعامل مع إيران على أساس أنها جزء من هذه الاستراتيجية التي يمكن أن تأتي بنتائج أكثر من العقوبات التي فرضها مجلس الأمن.
ويبدو أن هذه الجهود تستهدف مشروعين حتى الآن يمكن أن يوفرا زيادة في الطاقة الإنتاجية تبلغ 800 ألف برميل يوميا خلال فترة أربع سنوات. فمعظم البنوك الأوروبية التي أبدت استعدادا في البداية للمشاركة في التمويل بدأت تتراجع تباعا، الأمر الذي دفع طهران إلى اللجوء إلى قدراتها الذاتية لتوفير التمويل اللازم. فالصناعة تعاني من مشكلة التقدم في العمر للعديد من الحقول المنتجة، وبعضها تعرض إلى دمار إبان فترة حرب السنوات الثماني مع العراق، وهو ما يتطلب حقنها بكميات كبيرة من الغاز كي تظل منتجة. وهذا الغاز كان يمكن بيعه أو استخدامه محليا. وهناك حاجة إلى استثمارات بمليارات الدولارات لإبقاء الوضع على ما هو عليه ووقف أي تدهور إضافي.
فبسبب سعر المنتجات المكررة المدعوم، فإن الاستهلاك الداخلي في حالة انفجار يفاقم فيه أن كميات أخرى تذهب إلى التهريب إلى الأسواق المجاورة، حيث سعر جالون الوقود أغلى ويزيد كثيرا على 35 سنتا التي يباع بها الجالون داخل إيران. لكن، ولأسباب سياسية، فإن الحكومة تفضل أن يبقى سعر الوقود مدعوما إضافة إلى سلع أخرى، وهو ما يكلف الخزينة العامة مبالغ تتراوح بين 20 و30 مليار دولار، أو نحو 15 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي.
ورغم أسعار النفط العالية التي شهدتها السنوات الثلاثة الماضية، إلا أن الموازنة الإيرانية ظلت تعاني من عجز مزمن. وفي مطلع عام 2005 أقر البرلمان الإيراني تجميد أسعار البنزين للاستخدام الداخلي عند المعدل الذي كان يباع به عام 2003، لكن رغم ذلك هناك حاجة إلى توفير المزيد من الدعم، وكان النقاش يجري في فترة من الفترات حول ضرورة توفير مبلغ يفوق ثلاثة مليارات دولار لسد فجوة الدعم.
فمن جملة الإنتاج النفطي اليومي الذي يبلغ نحو أربعة ملايين برميل، فإن مليونا ونصف المليون منها تذهب لمقابلة الاستهلاك المحلي، الذي ينمو سنويا بنحو 6 في المائة، وهي نسبة عالية، كما أن هناك تسربا من المصافي المحلية يصل أيضا إلى 6 في المائة ولم تتم معالجته. فلإيران طاقة تكريرية تبلغ 1.64 مليون برميل يوميا أكبرها في مصفاة عبادان التي تبلغ طاقتها 400 ألف برميل يوميا إلى جانب خمس مصاف أخرى في طهران، أصفهان، بندر عباس، أراك وتبريز، وهي الأصغر حجما بطاقة تكريرية تبلغ 112 ألف برميل يوميا. وهناك خطط لرفع الطاقة التكريرية إلى 2.54 مليون برميل يوميا بحلول العام 2010، لكن حتى ذلك الوقت يظل استيراد بعض المشتقات خاصة البنزين وفي حدود 190 ألف برميل يوميا مستمرا.
ومع أن لإيران احتياطيات نفطية مؤكدة تبلغ 132.5 مليار برميل وأن الإنتاج يتم من 40 حقلا منها 27 تحت المياه و13 حقلا على اليابسة، إلا أن حجم الإنتاج ظل ثابتا على حاله.
وفي دراسة في جامعة جون هوبكنز الأمريكية نشرت أخيرا أن تصاعد الاستهلاك المحلي وعدم القدرة على رفع الطاقة الإنتاجية سيؤدي إلى تراجع في حجم الصادرات النفطية الإيرانية ما بين 33 و46 في المائة بحلول عام 2011، وتوقف الصادرات كليا بحلول العام 2015، على أن البعض يرى هذه التقديرات متشائمة إلى حد كبير.
ورغم أن الإنتاج سيظل ثابتا في حدودا أربعة ملايين برميل يوميا، ألا أن التصريحات الرسمية تشير إلى أنه تم توقيع عقود بمبالغ تصل إلى 28.4 مليار دولار خلال فترة 15 شهرا من منتصف عام 2005 لإنفاقها على مشاريع نفط وغاز بأمل رفع الطاقة الإنتاجية إلى سبعة ملايين برميل يوميا عام 2014، لكن في تقديرات الوكالة الدولية للطاقة فإن رفع القدرة الإنتاجية إلى هذا المعدل وفي مثل هذا الإطار الزمني يحتاج إلى استثمارات في حدود 80 مليار دولار. والمفارقة أن بعض المحللين المتابعين لهذا الجانب يرون أن إيران في حاجة فعلا إلى طاقة نووية كبديل لمقابلة احتياجاتها المتنامية.
ومع أن جذور الإجراء الأمريكي بفرض مقاطعتها على الشركات الأجنبية تعود إلى العقد الماضي، إلا أن العديد من الشركات مثل "رويال داتش شل" و"توتال"، عبرت عن رغبتها في العمل رغم إمكانية الدخول في منازعات مع واشنطن.
إيران من جانبها التي كانت مثل بقية دول منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) قد أحكمت سيطرتها على صناعتها النفطية من خلال ذراع الشركة الوطنية الإيرانية للنفط، طرحت صيغة إعادة الشراء للسماح للخبرات والاستثمارات الأجنبية بالعمل على أراضيها، لكن مرور السنوات والمفاوضات المتصلة لم تؤد إلى نتائج تجعل هذه الشركات تفضل الخيار الإيراني على التهديد بالمقاطعة الذي تلوح به واشنطن. وتبدو قصة الشركات اليابانية التي يضمها كونسورتيوم "أنبيكس" دخلت في مفاوضات مع طهران استغرقت سبع سنوات حول تطوير حقل أزاديجان ولم يتم التوصل إلى اتفاق مرض، الأمر الذي دفع تلك الشركات إلى الانصياع للرغبة الأمريكية وترك المشروع.

الأكثر قراءة