إنها ليست استراتيجية أمريكية جديدة!
دعت الإدارة الأمريكية دول الخليج ومصر والأردن إلى دعم ما أسمتها استراتيجيتها الجديدة في العراق باعتبار أن لها مصلحة في مواجهة تزايد النفوذ الإيراني، الذي يمثل أبرز وأهم النتائج الكارثية للغزو الأمريكي للعراق. وحذر الرئيس الأمريكي هذه الدول من أن هزيمة الولايات المتحدة في العراق ستخلق ملاذاً جديداً للمتطرفين وخطرا استراتيجيا على بقائها. وكدليل على دعمها هذه الاستراتيجية الجديدة فإنها مطالبة بدعم ما يسمى تجاوزا "بالحكومة العراقية" مُغذية العنف الطائفي والمخترقة من عملاء إيران والتي تدين ببقائها للمليشيات الطائفية. ما يجعل دعم هذه الدول لما سمي "بالاستراتيجية الجديدة" في العراق يعني اتخاذها موقفا أقل ما يمكن أن يوصف به أنه متعارض مع مصالحها العليا وأمنها الوطني، باعتبار أن دعم الحكومة العراقية الحالية يسهم في تأجيج نار الفتنة الطائفية ويدعم تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، ويعني أن هذه الاستراتيجية في حقيقتها ليست فقط متعارضة مع مصالح الدول العربية وإنما أيضا تتصادم بشكل فاضح مع ما تدعي الولايات المتحدة أنه حجر الزاوية في سياستها في العراق.
لذا فإن أي استراتيجية أمريكية جديدة حقيقية في العراق يجب أن تقوم على إعادة نظر شاملة وانقلاب جوهري في مشروعها في العراق والمنطقة العربية بشكل عام، لا أن تتخذ قرارا بمواصلة سياسة فاشلة وتكتفي بإطلاق اسم جديد عليها وتطالب دول المنطقة بدعمها. فكل ما ترتب على السياسة الأمريكية في العراق حتى الآن هو: هيمنة إيرانية على العراق، وتنام للنفوذ الإيراني في المنطقة، وموجة عنف طائفي تتفاقم يوميا وتنذر بقيام حرب إقليمية مدمرة تنجر لها دول المنطقة كافة، وتوفير غطاء للتغلغل الإيراني من خلال اضطرار سلطات الاحتلال للتحالف مع القوى المخترقة إيرانيا والساعية لتحقيق أهدافها في العراق والمنطقة، ما يعني أن الحكومة العراقية غير مؤهلة ولا قادرة على تخليص العراق من محنته. ومن الحماقة الاعتقاد أنها قادرة على الإنسلاخ من جلدها والوقوف في وجه عصابات العنف والتطرف أو أن يكون من بين أولوياتها مواجهة المشروع الإيراني في العراق، ومن غير المنطقي تصور إمكانية إقناع الدول العربية أن مصلحتها وأمنها الوطني يُخدم من خلال دعمها لحكومة لا تعدو كونها أداة لدعم المشروع الطائفي الإيراني وتمددها الإقليمي.
هذا التناقض الواضح بين ما تدعي الولايات المتحدة أنه يمثل أهدافها في العراق وبين سياساتها الفعلية لا يمكن تفسيره إلا بوجود أجندة أمريكية غير معلنة مختلفة تماما، جعلت سياساتها تبدو كما لو أنها تعمل لتحقيق عكس أهدافها المعلنة في المنطقة. والولايات المتحدة لكي تكسب ثقة ودعم دول المنطقة في حاجة إلى إجراء تغيير جوهري حقيقي لا شكلي في استراتيجيتها العراقية يظهر سعيها الجاد لوقف تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة ووأد الفتنة الطائفية، ما يسهم في طمأنة أصدقائها حول حقيقة أهدافها بعيدة المدى في العراق. وأي استراتيجية جديدة حقيقية في العراق لا بد أن تقوم على إلغاء كامل استحقاقات الغزو والاحتلال الحالية وخلق واقع جديد على الأرض يستهدف وحدة واستقلال العراق والحد من تغلغل النفوذ الإيراني فيه، من خلال اشتمالها على التالي:
1- تحديد موعد نهائي لانسحاب كامل للقوات الأمريكية من العراق، ما يضمن مشاركة القوى الوطنية كافة في العملية السياسية، ويجعلها بعيدة عن أن توصم بخدمة الاحتلال ومخططاته في العراق من خلال تلك المشاركة كما هو حاليا.
2- إلغاء كل استحقاقات المرحلة التي تلت الغزو الأمريكي للعراق بما في ذلك إلغاء ما يسمى "بالدستور العراقي الجديد" الداعم للطائفية وحل الحكومة والبرلمان المشكلين بناء على انتخابات طائفية دعمتها قوات الاحتلال.
3- إقامة إدارة عراقية غير منتخبة عالية الكفاءة وقوية تتكون من عناصر وطنية عراقية غير محسوبة على المليشيات والتنظيمات الطائفية أي كان اتجاهها، مهمتها إدارة العراق وإخراجه من أتون الاحتلال والحرب الطائفية، أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة سيكونون أكثر من مستعدين لدعمها وتسهيل مهمتها.
4- إلغاء قرار حل الجيش العراقي وإعادة بنائه من جديد على أسس غير طائفية وتدريبه وتزويده بالأسلحة والمعدات التي تمكنه من المشاركة بفاعلية في حفظ الأمن ومحاربة التطرف وتوفير الحماية للإدارة العراقية الجديدة.
5- بعد انسحاب كامل القوات المحتلة واستعادة الأمن والاستقرار في العراق يتم وضع دستور غير طائفي تحظر بموجبه الأحزاب الطائفية والعرقية بشكل تام، يتم بناء عليه إجراء انتخابات عامة ضمن برنامج تدريجي يهدف إلى قيام نظام ديمقراطي كامل.
أما دون ذلك فإن مجرد إعادة الولايات المتحدة تغليف استراتيجيتها الكارثية في العراق لا يترتب عليه إلا التأكيد مجددا على أن لها أهداف غير معلنة أوقعتها في هذا التناقض العجيب، وأن ما أسمتها استراتيجيتها الجديدة لا تعدو كونها محاولة مستميتة أخيرة لكسب مزيد من الوقت لتحقيق تلك الأهداف.