أمل الأجيال لمستقبل واعد
عقدت خلال الفترة من 13 - 14 ذي القعدة 1427هـ في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات في فندق الإنتركونتننتال ورشة العمل الوطنية الثانية لمشروع آفاق، والذي يعنى بوضع خطة مستقبلية للتعليم الجامعي في المملكة. وقد خصصت الجهة المشرفة على المشروع ـ جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. هذه الورشة لعرض النتائج الأولية للدراسات الفنية لمحاور ومواضيع المشروع. ومع تعدد وتنوع المواضيع، إلا أنها تصب في نهاية المطاف في مجال طالما انشغل به المسؤولون والطلاب وأولياء الأمور وصنّاع القرار، لأن التعليم العالي يمثل حجر الزاوية وقطب الرحى في مناحي التنمية كافة وفي جميع المجالات: الاقتصادي، الصحي، الاجتماعي، الهندسي، التربوي، الإداري، التقني، والتخطيطي، وعلى مقدار ومستوى الجودة اللتين يكون عليهما التعليم العالي يكون مستوى الإنتاج والعطاء والكفاءة على مستوى الوطن.
وقد بلغت العروض عشرين عرضاً تناولت موضوع القبول والاستيعاب، الملاءمة مع سوق العمل، التعليم العالي للفتاة، هيئة التدريس، تقنية المعلومات، تقنية التعليم، التعليم الصحي، التعليم الهندسي، التعليم العالي الأهلي، المنح، التعليم التربوي، المتغيرات العالمية، خدمة المجتمع، الدراسات العليا، التنظيم والإدارة، العلاقة بين التعليم العام والعالي، والبحث العلمي. وتضمنت ورشة العمل عرضاً لتجارب عالمية، إذ عرضت التجربة الكورية والتجربة الماليزية في التعليم العالي، إضافة إلى متحدثين آخرين من الولايات المتحدة.
وإذا كان المشروع يستهدف وضع خطة وطنية شاملة للتعليم العالي وتمتد إلى عقود، فإن الأمر يستوجب قراءة متعمقة ذات طابع تحليلي لواقع التعليم العالي مع الأخذ في الاعتبار لمكونات الواقع الثقافية والاجتماعية الاقتصادية والمناطقية من حيث تكوينها الجغرافي والديموجرافي. وهذا لا يعني الاكتفاء بتحليل الواقع المحلي، بل لا بد من إطلالة مستفيضة وذات طابع علمي على التغيرات الدولية في جميع المجالات السياسي، الاقتصادي، التقني، والثقافي، ذلك أننا لسنا معزولين عن العالم، ويجب ألا نكون كذلك لأن هذه الإطلالة تجعلنا نعيد النظر في منظومة التعليم العالي لنجعله أكثر قدرة على التفاعل مع هذه المتغيرات، ولديه المرونة الكافية المنبعثة من نظامه الداخلي مما يمكنه من الاستجابة لهذه المتغيرات والتكيف معها، وهذه إحدى سمات الكفاءة الداخلية التي تحقق الجودة المرتجاة.
وبهدف تحقيق الكفاءة الداخلية للتعليم العالي في بلادنا، لابد من تغيير ثقافة المؤسسة بالقدر الذي يمكنها من العمل بعيداً عن البيروقراطية والمركزية، وثقافة إدارية كهذه لا يمكن تحقيقها إلا من خلال النظام الذي يحكم مؤسسات التعليم العالي، والخاضع للدراسة في مجلس الشورى هذه الأيام، والذي يفترض أن يعطي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي قدراً من المرونة والاستقلالية في الشؤون المالية والإدارية. ولا يمكن للجامعة على سبيل المثال أن تنظم ندوة علمية في حقل من حقول المعرفة، وفي الوقت المناسب والظرف المناسب إذا كان عليها أن تمر بسلسلة من المخاطبات والمكاتبات مع جهات عدة خارج الجامعة. وكما لا يمكنها أن تحصل على أعضاء هيئة التدريس المتميزين وقبل بدء الدراسة وهي منشغلة بمخاطبات ومعاملات قد تكون على بعض المكاتب في أحسن الأحوال أو في (الأدراج) تنتظر موظفاً يتمتع بإجازته الصيفية كي يبت في المعاملة.
المطارحات الفكرية في هذا الشأن كثيرة، لكن المؤكد أن الجامعة جزء من المجتمع تتأثر به وتؤثر فيه، تتأثر به في ثقافته العامة ومنظومته الإدارية ووعيه وحرصه عليها كمؤسسة تربوية وتؤثر فيه من خلال مخرجاتها ومؤتمراتها وندواتها وبحوثها ونشاطاتها الفكرية والثقافية ومشاركات أعضاء هيئة تدريسها في المناشط الاجتماعية المتنوعة وحتى تتحقق هذه العلاقة التبادلية بين الجامعة والمجتمع يحسن أن نسأل: هل الجامعة تتحرك نحو المجتمع أم أن المجتمع هو الذي يتحرك نحوها؟ أي بعبارة أخرى هل الجامعة تسعى جاهدة لمعرفة احتياجات المجتمع ومشاكله، وتسهم في تحقيق هذه الاحتياجات وحل المشاكل من خلال البرامج الأكاديمية والبحوث العلمية والأنشطة والفعاليات أم أن المجتمع هو الذي يسعى نحوها ويبلغ الجامعة بهذه الأشياء؟ أعتقد أن المسؤولية مشتركة فلا الجامعة تبقى في برج عاجي تنظر إلى المجتمع من بعيد وكأنه لا يهمها ما يوجد فيه، ولا المجتمع يترك المهمة كاملة على الجامعة. ولذا لابد من قنوات تواصل بين الطرفين، إذ يمكن تمثيل المجتمع ممثلاً في قياداته الاقتصادية والصناعية والتجارية والمهنية في مجالس الأقسام والكليات والجامعة، ومن خلال اللجان المشتركة بهدف تحديد الاحتياجات والكفاءات المطلوبة ووضع ملامح البرامج الأكاديمية وبما يخدم الاحتياجات الاجتماعية وسوق العمل، رغم أن البرامج العلمية ليست مقتصرة على احتياجات سوق العمل فقط ذلك أن خدمة المعرفة وإثراءها والمشاركة في تطويرها ونموها يعتبر أحد الأهداف الرئيسة للأقسام والبرامج العلمية في الجامعات حتى ولو لم تكن هناك حاجة لمخرجاتها في سوق العمل، على ألا تكون المخرجات التي تخدم المعرفة والعلم على حساب حاجات سوق العمل.
إن انتقال الجامعة بأساتذتها وطلابها إلى قلب المجتمع والتفاعل معه يجعل منها قادرة على تلمس احتياجاته ومراعاة ذلك في برامجها وأنشطتها، وينقلها من مرحلة التعليم النظري إلى مرحلة التعليم التطبيقي الذي يكسب الطلاب المهارات العلمية، وهذا هو ما تتطلع إليه مؤسسات وجهات التوظيف سواء كانت عامة أو خاصة. أذكر في هذا الصدد مثالين أولهما عندما كنت طالباً في الولايات المتحدة طلب منا أستاذ مادة الإدارة - والتي سجلتها كمادة حرة - الذهاب للمحكمة في المدينة التي توجد فيها الجامعة لنرى بصورة علمية كيف يدير القاضي الموقف ويتعامل مع الادعاء والدفاع والخصوم وما أزال أتذكر القيمة والفائدة العلمية التي أحدثتها هذه التجربة المحدودة في وقتها.
أما المثال الثاني، فكان في جامعة الملك سعود، والتي أعمل فيها إذ تشرفت برئاسة فريق بحثي أجرى دراسة تقويمية لإحدى كليات الجامعة، وقد استهدفت منهجية الدراسة المكونات التعليمية والتربوية كافة من أهداف، خطة دراسية، أساتذة، قاعات دراسية، معامل، طلاب، اختبارات، طرق تدريس، جهات توظيف، شروط القبول في الكلية، الأداء الإداري، المقررات، والإنجازات البحثية لمنسوبي الكلية. وقد تبيّن من الدراسة والاختبارات التي طبقت على الطلاب في مجالاتهم التخصصية ومن نتائج الاستبيانات على الطلاب وجهات التوظيف وأعضاء هيئة التدريس أن من أسباب ضعف الطلاب في تخصصاتهم عدم وجود الوسط الاجتماعي الذي يمكنهم من تطبيق وممارسة تخصصاتهم وقد قدمت توصيات لمعالجة مثل هذه الإشكالية. وما يهمنا في هذا المثل هو أن الجامعة لا يمكنها أن تصنع المواقف والظروف كافة التي تجعلها تنتقل بالتعليم من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي، ولذا فهي في حاجة إلى دعم ومساندة المجتمع، إضافة إلى المرونة الإدارية والمالية التي تمكنها من خلق الفرص لمزيد من التدريب والتطبيق خارج الوطن وإيجاد البرامج المشتركة مع جامعات أخرى أو ما يعرف بالتوأمة بين الجامعات.
وهذا ليس عذراً نبرر به حالة الضعف في الجوانب التطبيقية، بل لا بد من الاعتراف أن بعض أعضاء هيئة التدريس يتجنبون الجانب التطبيقي ويركزون على الجانب النظري رغم توافر الإمكانات لذلك. ومهما يكن الأمر، الجامعة جزء من المجتمع وجدت لخدمته والإسهام في بنائه وتطوره، ولكي تؤدي هذه الرسالة بالصورة المطلوبة لا بد لها من الاندماج في مجتمعها. وعلى المجتمع دعمها وتمكينها من القيام بدورها. وهذا لا يتحقق من خلال رمي الحجارة من بعيد والوقوف موقف المتفرج إذ يستلزم الأمر تضافر الجهود واستثمار الإمكانات المادية والبشرية كافة إذا أردنا تحقيق الأمل.